بين التفاوض والضغوط.. حماس تزن المقترح الأميركي وإسرائيل توافق
بين التفاوض والضغوط.. حماس تزن المقترح الأميركي وإسرائيل توافق

بين دخان المعارك ورائحة الدم العالق في سماء غزة، يتسلل بصيص أمل في أروقة السياسة المعقدة، يحمل توقيع مبعوث أمريكي يسعى لتجميد البنادق، ولو مؤقتًا، المقترح الذي حمل اسم "مقترح ويتكوف" يبدو أقرب ما يكون إلى طوق نجاة في بحر متلاطم من العنف والمراوحة الدموية، حيث تتبادل إسرائيل وحماس إشارات حذرة تشي باحتمال تهدئة تمتد لشهرين، وبينما سارعت تل أبيب إلى إعلان موافقتها المشروطة، ما تزال حماس تقرأ ما بين السطور، وتستشير حلفاءها وفصائلها قبل أن تُعلن موقفًا نهائيًا.
الوثيقة التي طُرحت وسط ضغوط دولية وإقليمية تَعِد بتبادل أسرى وانسحاب نسبي من مناطق الاشتباك، لكنها تُبقي الأفق السياسي معلقًا على خيط تفاوض هش، وفيما تترقب العائلات، ويحتبس المدنيون أنفاسهم، تعود الكرة من جديد إلى ملعب المعادلات السياسية المعقدة، حيث لا تكفي النوايا وحدها لتوقيف شلال الدم.
*مساعٍ دولية*
منذ اندلاع جولة القتال الأخيرة في قطاع غزة، تتكثف المساعي الدولية لتثبيت هدنة قابلة للصمود بين إسرائيل وحركة حماس، وبعد أسابيع من الدبلوماسية المكوكية، برز اسم المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف كأحد أبرز الوسطاء الذين يحملون مسودة تفاهم من شأنها إحداث اختراق فعلي في جدار الأزمة.
المقترح الأمريكي الجديد، الذي جاء نتاج مشاورات طويلة مع مسؤولين إسرائيليين واجتماعات غير مباشرة مع حماس عبر الوسيط بشارة بحبح، ينص على وقف مؤقت لإطلاق النار لمدة 60 يومًا، يتخلله تبادل أسرى وإعادة انتشار جزئي للقوات الإسرائيلية داخل قطاع غزة.
ورغم ما يحمله هذا العرض من بنود تُرضي الطرفين جزئيًا، إلا أن الشكوك ما زالت تحيط بإمكانية تطبيقه على الأرض دون انتكاسات.
*تفاصيل المقترح: توازن حذر بين الأمن والسياسة*
ينص المقترح على إطلاق سراح 10 أسرى إسرائيليين أحياء و18 جثمانًا من جانب حماس، مقابل إفراج إسرائيل عن 1,236 معتقلًا فلسطينيًا وتسليم جثامين 180 شهيدًا.
كما يتضمن إعادة انتشار للقوات الإسرائيلية من شمال القطاع وممر نتساريم ابتداءً من اليوم الأول للاتفاق، مع انتقال العملية لاحقًا إلى جنوب غزة، وسط غموض بشأن المناطق التي سيتم الانسحاب إليها.
ورغم أن إسرائيل أعلنت موافقتها على المقترح، فقد ربطها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بشرط أساسي يتمثل في استعادة كافة الأسرى الإسرائيليين قبل أي انسحاب كامل من غزة، وهو ما يضيف طبقة من التعقيد على تنفيذ الاتفاق.
*حماس: حسابات المقاومة والميدان*
في المقابل، لم تعلن حماس بَعد موقفًا رسميًا من المقترح، مصادر قيادية داخل الحركة أكدت أن القرار لم يُحسم، وأنها تُجري مشاورات معمقة مع الفصائل الفلسطينية الأخرى، لتحديد ما إذا كان العرض يحقق الحد الأدنى من تطلعات الفلسطينيين ويخفف المأساة الإنسانية المتفاقمة في القطاع، دون أن يفرّط بثوابت المقاومة أو يعطي إسرائيل تفوقًا سياسيًا مجانيًا.
كما أكدت مصادر أخرى، أن حماس تدرس تفاصيل "إعادة الانتشار" الإسرائيلية بحذر بالغ، خاصة أن الأمم المتحدة تعتبر أكثر من 80% من قطاع غزة "منطقة عسكرية إسرائيلية"، ما يطرح تساؤلات حول جدية الانسحاب ومصداقية الضمانات الدولية.
*الضمانات الدولية*
الاتفاق المقترح ينص على أن تكون الولايات المتحدة وقطر ومصر أطرافًا ضامنة لتنفيذ بنوده، وهي صيغة لطالما اعتمدت في جولات تفاوضية سابقة، غير أن تجارب الماضي علمت الطرفين أن الضمانات وحدها لا تكفي ما لم تُترجم إلى التزامات فعلية ومراقبة ميدانية.
ويبدو أن واشنطن تسعى من خلال هذا المقترح إلى استثمار اللحظة السياسية الحالية، حيث يقترب الرئيس دونالد ترامب من إعلان "هدنة إنقاذية" تُمكّنه من تحقيق إنجاز دبلوماسي في الشرق الأوسط، بينما تجد تل أبيب نفسها أمام ضغط شعبي متزايد لاستعادة الأسرى بأي ثمن، حتى لو اضطرت للتفاوض مع "عدوها اللدود".
*عقبات محتملة*
رغم الطابع الإنساني الظاهر لبنود الاتفاق، إلا أن نجاحه مرهون بعدة اعتبارات، أولها قدرة الطرفين على الالتزام بمسار زمني دقيق، وثانيها موقف الأطراف الإقليمية مثل إيران وتركيا، اللتين قد تؤثران على قرار حماس بطرق غير مباشرة، كما أن أي خروقات ميدانية صغيرة قد تُنسف الاتفاق قبل أن يرى النور.
الشق السياسي لا يقل تعقيدًا، إذ أن أي حديث عن "هدنة دائمة" سيفتح الباب لأسئلة أكبر تتعلق بمستقبل القطاع وسلاح المقاومة وترتيبات ما بعد الحرب، وهي ملفات لم تنضج بعد على طاولة أي طرف.
*كسر الجمود*
من جانبه، قال القيادي الفلسطيني جهاد ملكه: إن خطة ويتكوف المطروحة حاليًا على طاولة المفاوضات تمثّل محاولة جديدة لكسر الجمود السياسي الذي يحيط بملف الأسرى ووقف إطلاق النار في قطاع غزة، بعد تعثر محاولات سابقة، لكن قراءة متأنية لمضامينها تُظهر أنها أقرب إلى مناورات تكتيكية منها إلى إطار استراتيجي متكامل يمكن أن يُبنى عليه حل حقيقي يُوقف حرب الإبادة على غزة ويُغيث أهلها الذين يعيشون مجاعة غير مسبوقة في التاريخ الحديث.
وأشار ملكه في تصريحات لـ"العرب مباشر"، أن جوهر المقترح "يتجنب تقديم أي التزام صريح بإنهاء الحرب، وهو المطلب الفلسطيني الأساسي، ويُبقي الباب مواربًا أمام استئناف العمليات العسكرية الإسرائيلية عقب هدنة مؤقتة".
واعتبر أن الاقتراح بالإفراج عن عدد محدود من الأسرى دون ربطه بضمانات دولية أو مسار سياسي طويل الأمد، يعكس رغبة إسرائيلية في الحفاظ على حكومة الائتلاف اليميني المتطرف بقيادة نتنياهو، وتهدئة الشارع الإسرائيلي الغاضب، أكثر مما يعكس تحوّلًا جوهريًا في الموقف الرسمي تجاه تسوية الصراع.
ورغم ذلك، يرى ملكه أن الخطة تحمل بعض المؤشرات الشكلية التي قد توحي بجديّة، لكنها ما تزال تواجه تحديات بنيوية على صعيد المضمون، لا سيما في ما يتعلق ببنود إنهاء الحرب وضمانات ما بعد الهدنة، وهي نقاط ما تزال تمثل عقدة تفاوضية حقيقية.
لكنه أقر بأن "الضغوط الأميركية والأوروبية المتزايدة قد تُسرّع وتيرة التفاوض وتدفع باتجاه تسوية مرحلية".
وفي ضوء ذلك، لفت ملكه إلى أن "خطة ويتكوف قد تكون مقدّمة أولى نحو صفقة أوسع، لكن نجاحها يظل مرهونًا بتنازلات متبادلة، خاصة من الجانب الإسرائيلي.
وتابع: "المؤشرات الأخيرة تُظهر أن الخطة بدأت تقترب من مساحة تفاهم مبدئية بين الطرفين، فحركة حماس، رغم تحفظاتها، بدأت تبدي موافقة ضمنية، بفعل الوضع الإنساني الكارثي، وارتفاع ضغط الشارع الفلسطيني الذي بات يرى في التهدئة – حتى المؤقتة – ضرورة قصوى لإنقاذ الحياة".
وشدد على أن "هذا الضغط الشعبي يُضاف إلى ضغط سياسي غير مباشر على حماس، يدفعها نحو إبداء مرونة محسوبة في التعامل مع المقترحات المطروحة، ومن ثمّ فإن القبول بخطة ويتكوف، شريطة تضمّنها بنودًا واضحة بشأن وقف إطلاق النار، وضمان تدفق المساعدات الإنسانية، وتوفير ضمانات دولية، لم يعد مستبعدًا، بل بات مرجحًا في إطار تبادل مشروط للمطالب".
واختتم جهاد ملكه تصريحه بالتنبيه إلى أن العقبة الأبرز ما زالت تكمن في تمسّك نتنياهو بعدم القبول بإنهاء الحرب، واختزال الصفقة في أبعاد أمنية وإعلامية فقط، وهو ما يُبقي احتمال الانهيار قائمًا في أي لحظة.
ودعا المجتمع الدولي، خصوصًا واشنطن والقوى الإقليمية وعلى رأسها مصر، إلى الضغط الجاد لإعادة صياغة الخطة بما يحقق الحد الأدنى من التوازن بين الاحتياجات الإنسانية العاجلة في غزة والمطالب الأمنية لإسرائيل، بعيدًا عن منطق المقايضة المجتزأة، لأن الوقت في غزة يُقاس الآن بالدم والجوع.