صراع الحقول البحرية.. لماذا انفجر الخلاف الليبي اليوناني مجددًا؟
صراع الحقول البحرية.. لماذا انفجر الخلاف الليبي اليوناني مجددًا؟

في شرق المتوسط، حيث تختلط الجغرافيا بالنفوذ، وتتشابك الحقوق الاقتصادية مع الحسابات السياسية، تجد ليبيا واليونان نفسيهما في مواجهة متجددة، وهذه المرة بسبب مشروع يوناني للتنقيب عن النفط والغاز جنوب جزيرة كريت، هذا التحرك لم يمر مرور الكرام في طرابلس وبنغازي، حيث سارع طرفا الانقسام الليبي، رغم اختلافاتهما، إلى التنديد بما اعتبراه انتهاكًا للسيادة الليبية، مؤكدين أن المناطق التي تشملها المناقصة اليونانية تقع ضمن نطاق المنطقة الاقتصادية الليبية، القصة ليست جديدة، لكنها تعود هذه المرة في ظرف إقليمي حساس، إذ يأتي المشروع اليوناني بعد سلسلة اتفاقيات وقعتها طرابلس مع أنقرة عام 2022، أثارت بدورها حفيظة أثينا والاتحاد الأوروبي، وبينما تتحدث البيانات الرسمية عن "دعوة إلى الحوار" و"احترام القانون الدولي"، فإن ما يحدث على الأرض يكشف عن صراع نفوذ متصاعد في واحد من أكثر المسارح الجيوسياسية حساسية، حيث تتقاطع المصالح على الطاقة مع الخلافات السيادية.
*هشاشة العلاقات*
في خطوة فجّرت ردود فعل دبلوماسية حادة، استدعت وزارة الخارجية في الحكومة الليبية المكلفة من البرلمان، القنصل العام لجمهورية اليونان في بنغازي، أغابيوس كالوغنوميس، وذلك للاحتجاج على طرح اليونان مناقصة دولية للتنقيب عن النفط والغاز في مناطق بحرية جنوب جزيرة كريت، تقول ليبيا إنها تقع تحت السيادة الوطنية لطرابس وضمن منطقتها الاقتصادية الخالصة.
الاحتجاج الليبي لم يكن مفاجئًا بالنظر إلى هشاشة العلاقات بين الطرفين منذ توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين حكومة طرابلس وأنقرة عام 2019، والتي جُدّدت باتفاقيات إضافية عام 2022.
هذه الاتفاقيات تمنح تركيا - حليفة حكومة الدبيبة - حق التنقيب عن ثروات الغاز في مناطق بحرية محل نزاع، تشمل مناطق قبالة كريت، الأمر الذي تعتبره اليونان تعديًا غير مشروع على حقوقها السيادية.
بيان وزارة الخارجية في حكومة بنغازي جاء شديد اللهجة بشكل غير مسبوق، إذ حذر من أن أي خطوة يونانية منفردة في تلك المناطق "تشكل انتهاكًا واضحًا للسيادة الليبية وخرقًا لمبادئ القانون الدولي".
وطالبت ليبيا أثينا بالعدول عن إجراءاتها أحادية الجانب، والعودة إلى طاولة الحوار، مؤكدة أن هذه التصرفات تقوض جهود التهدئة في منطقة المتوسط.
*وحدة طرفي الانقسام الليبي*
اللافت، أن حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس – رغم العداء السياسي بينها وبين حكومة بنغازي – أصدرت هي الأخرى بيانًا أعربت فيه عن رفضها للمشروع اليوناني، معتبرة أن "أي أنشطة استكشافية في هذه المناطق دون تفاهم قانوني مسبق تعد خرقًا لحقوق ليبيا وتجاهلاً لقواعد القانون الدولي".
ويشير هذا التوافق النادر بين الحكومتين إلى حساسية الملف البحري الليبي، باعتباره من أبرز ملفات الإجماع الوطني القليل.
اليونان، من جهتها، تنظر إلى الأمر من زاوية مختلفة تمامًا، فهي تعتبر أن المناطق الجنوبية لكريت تقع ضمن الجرف القاري اليوناني، وترفض الاعتراف بالاتفاقيات الليبية التركية التي ترى أنها تتجاوز الأعراف الدولية وتنتهك سيادة الدول المجاورة.
وكانت أثينا قد قدمت سابقًا اعتراضًا رسميًا إلى الأمم المتحدة على مذكرة التفاهم الموقعة بين الدبيبة وأنقرة، ووصفتها بأنها "باطلة ولا ترتب أي آثار قانونية".
*التفاوض أو التحكيم*
محللون يرون، أن الخطوة اليونانية الأخيرة تمثل اختبارًا جديدًا للتوازنات الجيوسياسية في شرق المتوسط، الذي يشهد منذ سنوات سباقًا محمومًا للسيطرة على ثروات الطاقة.
كما أن هذا التصعيد قد يُعقّد المساعي الأممية الرامية إلى توحيد السلطات الليبية، في ظل تضارب المصالح الإقليمية والدولية في الملف الليبي، وارتباط ملف الغاز بصراعات النفوذ بين تركيا واليونان ومصر وفرنسا.
من جهة أخرى، يؤكد خبراء القانون الدولي، أن الخلافات حول ترسيم المناطق الاقتصادية يجب أن تُحل بالتفاوض أو التحكيم، لا بالخطوات الانفرادية، مشيرين أن الاستقرار في شرق المتوسط يبقى هشًّا ما لم تُوضع آلية إقليمية ملزمة لتنظيم استغلال الموارد البحرية بين الدول المتجاورة.
ووسط هذه التوترات، تبقى آفاق الحل مرهونة بقدرة الطرفين على كبح جماح التصعيد، خاصة مع اقتراب موسم التنقيب الصيفي، الذي يشكل عادة بداية لسلسلة من المناورات البحرية والتجاذبات الدبلوماسية. ويُخشى أن تتحول المياه الزرقاء جنوب كريت إلى ساحة اشتباك قانوني وربما أكثر، ما لم يتم فتح قنوات تفاوض فعّالة برعاية دولية تضمن مصالح جميع الأطراف.