من برلين إلى طرابلس.. خطة أممية لاستعادة الدولة الليبية من براثن الانقسام
من برلين إلى طرابلس.. خطة أممية لاستعادة الدولة الليبية من براثن الانقسام

في بلد أنهكته الصراعات وتعددت فيه مراحل الانتقال دون نهاية في الأفق، تستعد بعثة الأمم المتحدة إلى ليبيا للكشف عن خارطة طريق جديدة قد تشكل نقطة تحوّل في المسار السياسي المتعثر، الخارطة، المقرّر إعلانها منتصف أغسطس المقبل، لا تعد فقط مبادرة تقنية أو اقتراحًا إجرائيًا، بل تحمل في طياتها محاولة لإعادة ضبط الإيقاع السياسي، وإنهاء الانقسامات، وفتح الباب أمام انتخابات تؤسس لحكم موحّد ومشروع دولة متماسكة.
المبعوثة الأممية هانا تيتيه تحدثت بوضوح عن خريطة زمنية وعملية سياسية قابلة للتنفيذ، تشكّل استجابة لمطلب شعبي طال انتظاره، وبينما تدعو الأطراف الليبية إلى حسن النية والاستعداد للتوافق، يبقى التحدي الأبرز في قدرة هذه الخارطة على جمع المتنافرين حول طاولة واحدة، ووضع حد لسلسلة من العمليات الانتقالية التي تحولت إلى حالة دائمة، هل تحمل خارطة أغسطس بداية الخروج من النفق الليبي؟
*واقع سياسي معقد*
مع تصاعد القلق الإقليمي والدولي من استمرار الأزمة الليبية وتكرار دورات الفشل السياسي، أعلنت المبعوثة الأممية إلى ليبيا، هانا تيتيه، أن بعثة الأمم المتحدة تعمل على وضع اللمسات الأخيرة على خارطة طريق جديدة سيتم عرضها أمام مجلس الأمن في منتصف أغسطس المقبل.
الخارطة المنتظرة تمثّل أحدث محاولة دولية لتحريك المياه الراكدة في مشهد سياسي تتشابك فيه المصالح الخارجية مع الانقسامات الداخلية.
تيتيه، التي قدّمت إحاطتها الأخيرة من العاصمة طرابلس، شددت على أن الخارطة ستكون محددة زمنيًا وعملية من حيث التنفيذ، وستعكس إرادة الليبيين في إنهاء المرحلة الانتقالية الطويلة.
ولفتت، أن هذه المبادرة ليست مجرد وثيقة سياسية بل إطار شامل يتضمن إصلاحات تشريعية، وجدولاً زمنيًا واضحًا للانتخابات، ويهدف إلى إنهاء حالة الانقسام وإعادة توحيد المؤسسات الليبية تحت حكومة شرعية منتخبة.
وقالت تيتيه: إن "المطلوب اليوم هو تحلّي جميع الأطراف بروح المسؤولية، وتقديم تنازلات واقعية للوصول إلى أرضية مشتركة"، داعية السياسيين، ومنظمات المجتمع المدني، والنساء والشباب، إلى الانخراط بفعالية في العملية السياسية المرتقبة، بما يعكس التنوّع الليبي ويضمن شمولية النتائج.
*برلين 3 والتوافقات الدولية*
يأتي إعلان هذه الخارطة بعد أيام فقط من اجتماع "برلين 3"، الذي احتضنته العاصمة الألمانية بمشاركة ممثلين عن القوى الإقليمية والدولية، ومنظمات أممية ودولية معنية بالشأن الليبي.
البيان الختامي للمؤتمر أعرب عن دعمه للمبادرة الأممية، مشيدًا بعمل اللجنة الاستشارية التي قامت بتحديد المسارات القابلة للتطبيق لمعالجة العقبات الدستورية والقانونية والسياسية.
وكان من أبرز ما خرج به الاجتماع، الاتفاق على استمرار دعم مجموعات العمل الأربع المعنية بالسياسة، والأمن، والاقتصاد، وحقوق الإنسان.
كما تم التوافق على عقد لقاءات دورية لتنسيق الجهود الدولية وتوجيهها باتجاه دعم الخطة الأممية المنتظرة.
*الملامح الأولية للخارطة الجديدة*
بحسب مصادر أممية وليبية مطلعة، فإن خارطة الطريق تتضمن عناصر محورية، في مقدمتها تشكيل هيئة تأسيسية جديدة تتكوّن من 60 عضوًا، يكون من مهامها الإشراف على تشكيل حكومة موحدة، وتنظيم استفتاء شعبي على مسودة دستور دائم.
كما ستتولى هذه الهيئة إدارة العملية الانتخابية التي ستقود إلى برلمان ورئيس منتخبين، يُفترض أن يمثّلا مختلف المناطق والقبائل والمكوّنات الاجتماعية والثقافية في البلاد.
الخارطة ستنطلق أيضًا من توصيات اللجنة الاستشارية الأممية، التي دعت إلى إنشاء لجنة حوار سياسي بناءً على الاتفاق السياسي الليبي، تُناط بها مهام استكمال القوانين الانتخابية وتحديد طبيعة السلطة التنفيذية المقبلة، مما يعني إزاحة حالة الشلل التشريعي والمؤسساتي التي تطبع المشهد الحالي.
*فرصة حقيقية*
من جانبه، يقول الكاتب والمحلل السياسي الليبي أيوب الأوجلي: إن خارطة الطريق الأممية المرتقبة تمثل فرصة حقيقية – وربما أخيرة – لإخراج ليبيا من مأزقها السياسي الذي طال أمده، لكنها مشروطة بتحول جذري في سلوك الأطراف المحلية ونوايا اللاعبين الإقليميين والدوليين.
ويؤكد الأوجلي في تصريحات لـ"العرب مباشر"، أن الإعلان عن خارطة جديدة بحد ذاته ليس إنجازًا، ما لم تُترجم إلى خطوات عملية على الأرض، تبدأ بتوحيد المؤسسات وتحييد المال والسلاح عن العملية السياسية.
ويضيف أن من بين أهم التحديات التي تواجه هذه المبادرة هو استمرار الانقسام المؤسساتي وتعدّد مراكز القرار في ليبيا، ما يجعل من تنفيذ أي خطة أممية رهنًا بالتفاهمات الإقليمية لا الإرادة الوطنية فقط.
ويرى الأوجلي أن إشراك المكونات الثقافية والاجتماعية، وفتح الباب أمام الشباب والنساء وممثلي المجتمع المدني، يجب ألا يكون مجرد بند رمزي في الوثائق، بل عنصرًا أساسيًا في إعادة بناء الشرعية من القاعدة إلى القمة.
ويحذّر من أن أي تأخير في تنفيذ هذه الخارطة، أو تحريف في أهدافها تحت ضغط المصالح، قد يؤدي إلى فقدان ما تبقى من ثقة الليبيين في أي مسار سياسي، وبالتالي العودة إلى مربع الفوضى.
ويختم، بأن نجاح الخطة يتطلب آلية رقابة ومساءلة واضحة، وإرادة دولية صلبة تقف على مسافة واحدة من جميع الأطراف.
في السياق ذاته، يعتبر الدكتور طارق البرديسي، خبير العلاقات الدولية، أن خارطة الطريق الأممية الجديدة بشأن ليبيا تعبّر عن محاولة جادة لإعادة هندسة المسار السياسي الليبي بعد سنوات من الجمود، لكنها تواجه معضلة مركزية تتمثل في غياب الثقة المتبادلة بين الفاعلين الليبيين، وكذلك التباين في أولويات الأطراف الإقليمية والدولية المتدخلة في الملف.
ويشير البرديسي - في تصريحات لـ"العرب مباشر"-، إلى أن الأمم المتحدة تبدو هذه المرة أكثر واقعية من ذي قبل، من خلال سعيها لطرح جدول زمني محدد، وتحديد آليات تشاركية تشمل كافة المكونات الليبية، بما في ذلك القوى الشبابية والمجتمعية، وهو ما يعزز من فرص الاستقرار إذا ما تم الالتزام به فعليًا.
ويرى البرديسي، أن الرهان على توافق داخلي دون مظلة إقليمية ضامنة سيكون مجازفة، خاصة في ظل تقاطع المصالح الإقليمية والدولية، وتعدد الولاءات العسكرية والمالية في الداخل الليبي. كما يحذر من أن تجاهل بعض القوى النافذة ميدانيًا في العملية التفاوضية قد يؤدي إلى عرقلة التنفيذ، أو حتى إفشال العملية برمتها.
ويخلص، أن نجاح خارطة الطريق يتطلب توافقًا ثلاثي الأبعاد: ليبي–ليبي أولًا، ثم ليبي–إقليمي، وأخيرًا دولي–أممي، مع ضرورة أن تلتزم كل الأطراف الفاعلة بترك السلاح خارج قاعات الحوار، حتى تُمنح هذه المبادرة فرصتها الكاملة.
*تحديات الداخل واستحقاقات الخارج*
من جانبهم يرى مراقبون، إن الطريق إلى تنفيذ هذه الخارطة ليس سهلًا، فليبيا ما زالت تعاني من انقسامات بين حكومتين متنافستين، ووجود جماعات مسلحة تفرض نفوذها بقوة السلاح، فضلاً عن تدخلات خارجية تغذّي الصراع بدلًا من احتوائه.
هذه العوامل تجعل من الخارطة المقترحة اختبارًا حقيقيًا، وقياسًا لقدرة الفاعلين المحليين على تقديم التوافق على حساب المصالح الضيقة.