كيف تعيد بكين ودول الخليج رسم خريطة التجارة الدولية
كيف تعيد بكين ودول الخليج رسم خريطة التجارة الدولية

بين طموحات اقتصادية عابرة للقارات وتحولات جيوسياسية متسارعة، احتضنت كوالالمبور قمة ثلاثية جمعت الصين، ودول مجلس التعاون الخليجي، ورابطة آسيان، في لحظة تعكس إعادة تشكيل ميزان القوى العالمي.
لم تعد اللقاءات بين الشرق الآسيوي والخليج العربي مجرد محطات بروتوكولية، بل تحوّلت إلى منصات إستراتيجية لإعادة رسم خريطة الاقتصاد الدولي، حيث تطمح بكين إلى خلق "سوق كبرى" عابرة للحدود، تتدفق فيها السلع والتقنيات والطموحات بلا عوائق، وبينما تدعو الصين إلى تسريع اتفاقيات التجارة الحرة وبناء تكامل اقتصادي واسع، أكدت السعودية التزامها بخلق بيئة استثمارية مزدهرة وتحقيق تحول اقتصادي مستدام، خلف هذه التصريحات تكمن مصالح مترابطة، أمن، طاقة، وسلاسل توريد، وطموحات رقمية خضراء، ما يجري ليس مجرد تعاون بين تكتلات، بل تحوّل نوعي في الطريقة التي يعاد بها بناء النظام العالمي خارج هيمنة الغرب التقليدية.
*الحضارة العالمية*
في العاصمة الماليزية كوالالمبور، عقدت الصين قمة ثلاثية مع دول مجلس التعاون الخليجي ورابطة آسيان، واضعة نصب أعينها هدفًا طموحًا: بناء سوق إقليمية ضخمة تشكّل ثقلًا اقتصاديًا موازنًا للمحاور الغربية.
لم يكن الخطاب الصيني هذه المرة تقنيًا أو تجاريًا بحتًا، بل جاء محمّلًا بدلالات حضارية واستراتيجية، حيث دعا رئيس الوزراء الصيني لي تشيانغ إلى "تحويل الفوارق التنموية إلى مكامن قوة"، والعمل معًا لتنفيذ مبادرة "الحضارة العالمية"، وهي رؤية صينية بديلة للنظام الليبرالي الغربي.
كلمات "لي" لم تكن مجرد مجاملة دبلوماسية، بل محاولة لترسيخ مبدأ الشراكة الندية القائمة على التبادل لا التبعية، خاصة في ظل تصاعد التوترات بين الصين والولايات المتحدة.
*تكامل اقتصادي*
وفي هذا السياق، برزت دعوة الصين للإسراع بإتمام مفاوضات اتفاقية التجارة الحرة مع الخليج، باعتبارها بوابة ضرورية لتكامل اقتصادي أوسع يضم جنوب شرق آسيا.
ومن جهة الخليج، أكد وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان أن القمة تمثل خطوة متقدمة في مشروع الشراكة المتعددة الأطراف، مشددًا على التزام المملكة برؤية 2030 التي تهدف إلى تنويع الاقتصاد، وجعل السعودية محورًا لوجستيًا واستثماريًا بين ثلاث قارات.
كما أبدى دعمه للانتقال إلى الطاقة النظيفة، بما يتقاطع مع المبادرات الصينية كالحزام والطريق، التي تسعى إلى إعادة هيكلة البنية التحتية العالمية بتمويل صيني واسع.
*ثلث تجارة الخليج*
في هذا التلاقي بين بكين وعواصم الخليج العربي، تظهر أولويات جديدة: تعزيز التجارة الحرة، حماية سلاسل الإمداد، وتسريع التحول الرقمي.
فالناتج المحلي الإجمالي المجمع لهذه الدول يتجاوز 24 تريليون دولار، ما يشكل أكثر من 22% من الاقتصاد العالمي، مع توقعات بنمو يصل إلى 6% سنويًا حتى نهاية العقد.
وقدّم الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي جاسم البديوي أرقامًا تعزز هذا الطرح، موضحًا أن السوق الثلاثية تشمل أكثر من 2.1 مليار نسمة، وتمثل أكثر من ثلث تجارة الخليج مع العالم، إذ بلغ التبادل التجاري بين مجلس التعاون وكل من الصين وآسيان 347 مليار دولار في 2023، مع طموحات لبلوغ نصف تريليون دولار بحلول 2030.
*السياسة لا تغيب*
التقارب بين هذه الكتل الثلاث لا يتم بمعزل عن السياسات العالمية؛ فالدول المجتمعة لم تغفل القضايا الساخنة مثل الحرب في أوكرانيا أو حقوق الفلسطينيين، إذ أكدت السعودية في القمة ضرورة العمل الجماعي لتحقيق تسوية سلمية شاملة لكل من القضيتين، ما يعكس رغبة هذه الدول في لعب دور سياسي فاعل، لا يقتصر على الاقتصاد فقط.
في خلفية هذا التحول، يتجلى مشهد دولي جديد: تراجع واضح للنفوذ الغربي في بعض المناطق، واندفاع آسيوي لإعادة تعريف العولمة من منظور غير غربي.
فالصين لم تعد تطمح لأن تكون مصنع العالم فقط، بل مهندسًا لنظام اقتصادي عالمي جديد، تشكّل فيه آسيا والخليج قلب الحراك التجاري والتكنولوجي والاستثماري.
ورغم الفوارق في البنية الاقتصادية والأنظمة السياسية، تجمع هذه الدول مصلحة استراتيجية في فك الارتباط الجزئي عن الغرب، وتوسيع خياراتها في ظل عالم متعدد الأقطاب، في هذا الإطار، تبدو السوق الثلاثية الطموحة ليست مجرد حلم اقتصادي، بل بوابة إلى توازن دولي جديد تتحدد معالمه اليوم على ضفاف كوالالمبور.
*تحولًا جوهريًا*
من جانبه، يرى الدكتور علي الإدريسي، أستاذ الاقتصاد الدولي، أن الدعوة الصينية لإنشاء "سوق كبيرة" تضم الخليج وآسيان وبكين تمثل تحركًا استراتيجيًا يعكس تحولاً جوهريًا في موازين القوى الاقتصادية العالمية.
ويقول الإدريسي: "الصين تدرك تمامًا أن المستقبل الاقتصادي لم يعد محصورًا في الغرب، وأن الشراكات مع الكتل النامية والناشئة هي بوابة النفوذ الحقيقي في النظام الدولي الجديد".