نيران ما بعد الهدنة.. غزة تدفع ثمن صراع الروايات بين حماس وتل أبيب
نيران ما بعد الهدنة.. غزة تدفع ثمن صراع الروايات بين حماس وتل أبيب
تتأرجح غزة من جديد على حافة الانفجار، بعدما بدا أن الهدوء النسبي الذي فرضته تفاهمات وقف إطلاق النار بدأ يتهاوى تحت ضغط الملفات العالقة، وعلى رأسها قضية تبادل الجثث بين إسرائيل وحركة حماس، فالتوتر الذي عاد إلى السطح لم يكن مجرد حادث ميداني، بل مؤشر على عمق أزمة الثقة بين الطرفين، واتساع الفجوة بين الأهداف السياسية لكل منهما، ففي الوقت الذي يسعى فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى ترميم صورته المهزوزة داخليًا، تتشبث حماس بحقها في تثبيت وجودها كقوة سياسية وأمنية لا يمكن تجاوزها، وبين الاتهامات المتبادلة والتصعيد العسكري، تجد القاهرة نفسها مجددًا في قلب الجهود الدبلوماسية لإنقاذ اتفاق هشّ يتهاوى مع كل غارة جديدة، فيما تحاول واشنطن إدارة التوازن الصعب بين احتواء الغضب الإسرائيلي وضمان عدم انهيار ما تبقى من ترتيبات السلام المؤقتة.
عودة العنف
عادت أصوات الانفجارات لتدوّي في سماء غزة بعد أسابيع من هدوء مشوب بالحذر، فبينما كانت اللجان الميدانية تستعد لاستئناف عملية تبادل الجثث بين الجانبين، أصدرت حكومة بنيامين نتنياهو أوامر فورية للجيش الإسرائيلي بتنفيذ غارات جوية "واسعة ودقيقة"، متهمة حركة حماس بانتهاك شروط وقف إطلاق النار.
ووفقًا للمتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، فإن صورًا التقطتها طائرات استطلاع أظهرت ما وصفه بـ"محاولات حماس لإخفاء رفات رهائن إسرائيليين"، ما اعتُبر تهديدًا مباشرًا لمسار التسوية، لكن في المقابل، نفت حماس هذه الادعاءات، مؤكدة أن "إسرائيل تعرقل عمدًا دخول فرق الصليب الأحمر والمراقبين الدوليين"، وأنها تتحمل كامل المسؤولية عن تعطيل عملية التسليم.

مأزق الاتفاق
هذه التطورات المتسارعة أعادت إلى الواجهة مأزق الاتفاق الثلاثي الذي يفترض أن يمهّد الطريق نحو إعادة إعمار غزة، فالاتفاق، الذي جرى التوصل إليه بوساطة مصرية وبغطاء أميركي، ينقسم إلى ثلاث مراحل مترابطة، الأولى تتعلق بتسليم الجثث والرفات مقابل انسحاب محدود للقوات الإسرائيلية من بعض المناطق، والثانية تشمل ترتيبات أمنية وتسليم جزء من سلاح حماس، أما الثالثة فتركز على إعادة الإعمار ضمن جدول زمني تراقبه الأمم المتحدة.
لكن الخلافات على تنفيذ المرحلة الأولى جعلت باقي المراحل شبه مستحيلة، إذ يرى مراقبون أن كل مرحلة تحوّلت إلى فخّ تفاوضي يهدد ما بعدها، فيما ما تزال الثقة بين الجانبين شبه معدومة.
يقول الدكتور طارق فهمي، أستاذ العلوم السياسية: إن حماس وإسرائيل "تتعاملان مع الأزمة باعتبارها فرصة لتحقيق مكاسب سياسية داخلية أكثر من كونها ملفًا إنسانيًا أو تفاوضيًا".
ويضيف في حديثه لـ"العرب مباشر"، حماس تريد الحفاظ على أوراق قوتها في غزة، وتثبيت مكانتها كلاعب لا يمكن تجاوزه، في حين يسعى نتنياهو إلى استعادة تأييد اليمين المتطرف، عبر خطاب القوة والردع وتكرار شعار 'النصر الكامل' الذي يراود قاعدته الانتخابية منذ حرب أكتوبر 2023.
ويرى فهمي، أن هذا التباين في الأهداف يجعل من المستحيل تقريبًا الوصول إلى "سردية مشتركة" حول حقيقة ما يجري، فكل طرف يتهم الآخر بتقويض الاتفاق، ما يعقّد إمكانية التقدم نحو أي صيغة تسوية دائمة.
التحكم من الخلف
أما على الصعيد الدولي، فيبدو أن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تمارس سياسة "التحكم من الخلف"، إذ سمحت لإسرائيل بهوامش محدودة للتحرك العسكري مقابل التزام بعدم تفجير الهدنة بالكامل.
ويقول فهمي؛ إن واشنطن "تحاول تحقيق توازن مزدوج، احتواء ضغط التيارات اليمينية في إسرائيل من جهة، والحفاظ على الاتفاق كمنجز سياسي يمكن توظيفه في الساحة الدولية من جهة أخرى".
ويضيف، ترامب يسعى لأن يُنظر إليه كصانع سلام لا كراعٍ لحرب دائمة، ولهذا فهو يمنح نتنياهو مساحة محدودة للتصعيد حتى لا يظهر عاجزًا، مع ضمان بقاء الخيوط بيد واشنطن.
تحركات القاهرة
في هذه الأثناء، تتحرك القاهرة على أكثر من محور. فبينما تكثف اتصالاتها مع قيادة حماس في غزة ومع مسؤولين إسرائيليين، تطرح مقترحات جديدة تتعلق بإعادة هيكلة المراحل الثلاث للاتفاق، بما يتيح تجاوز المرحلة الأولى المعرقلة.
وتشمل الخطة المصرية مقترحًا لتجميد سلاح حماس مؤقتًا بدلاً من تسليمه، وتخصيص ممرات لوجستية بإشراف أممي لتسهيل عمليات البحث عن الجثث وتسليمها، كما تخطط القاهرة لتنظيم مؤتمر دولي لإعادة إعمار القطاع في نوفمبر المقبل، وسط مخاوف من انهيار التمويل إذا استمر التصعيد.
انتهاكات إسرائيل لوقف إطلاق النار
على الأرض، دفعت الغارات الأخيرة ثمنًا بشريًا باهظًا، فقد أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية أن أكثر من 100 فلسطيني استشهدوا خلال الساعات الماضية، بينهم عشرات الأطفال والنساء، إضافة إلى مئات الجرحى.
وأشارت الوزارة إلى أن إجمالي عدد الضحايا منذ بدء وقف إطلاق النار تجاوز 200 شهيد و600 مصاب، بينما ما تزال فرق الإنقاذ تنتشل جثامين من تحت الركام في مناطق متفرقة من شمال القطاع.
في المقابل، قالت حركة حماس -في بيان رسمي-: إن التصعيد الإسرائيلي يهدف إلى "فرض معادلات جديدة تحت النار"، مؤكدة التزامها بالاتفاق ورفضها لأي محاولات لنسفه.
ودعت المجتمع الدولي إلى التدخل لوقف "المجازر الممنهجة" وإلزام إسرائيل ببنود الهدنة.

العرب مباشر
الكلمات