نيران بلا نهاية.. الحدود الكمبودية التايلاندية تشتعل والنزوح يتضاعف
نيران بلا نهاية.. الحدود الكمبودية التايلاندية تشتعل والنزوح يتضاعف
لم تهدأ الحدود المشتركة بين كمبوديا وتايلاند منذ استؤنفت الاشتباكات الدامية بين الجانبين مطلع الأسبوع، بل تحولت إلى جبهة مفتوحة تتسع يومًا بعد يوم، مجبرةً مئات الآلاف من السكان على مغادرة منازلهم هربًا من القصف والمعارك.
وفي مشهد يذكّر بسنوات التوتر الطويل، تعود المواجهات بين البلدين إلى الواجهة بقوة، وسط تبادل للاتهامات حول استهداف المدنيين، وغياب أي بوادر لعودة التهدئة التي رعتها واشنطن خلال الأشهر الماضية، ومع تصاعد العمليات العسكرية، ودخول الطائرات المقاتلة والمدفعية الثقيلة على خط الاشتباكات، تتسارع وتيرة النزوح وتتعقد المشكلات الإنسانية، بينما يبدو الطريق نحو وقف إطلاق نار جديد أكثر انسدادًا من أي وقت مضى.
وبين دعوات دولية للتهدئة وإصرار كل طرف على تحميل الآخر مسؤولية الانفجار الأخير، يقف الإقليم مجددًا أمام اختبار صعب قد يحمل تبعات تتجاوز حدود المعركة إلى توازنات المنطقة بأكملها.
تصاعد الاشتباكات
تشهد الحدود الكمبودية–التايلاندية واحدة من أكثر جولات التصعيد حدة منذ سنوات، بعدما تحولت المناطق المتنازع عليها إلى مسرح لا يتوقف لسقوط القذائف وتقدّم الوحدات البرية.
هذا التوتر، الذي كان يُعتقد أنه تحت السيطرة بعد اتفاق وقف إطلاق النار الذي توسط فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في يوليو الماضي، انفجر مجددًا بطريقة فتحت الباب أمام أزمة إنسانية غير مسبوقة في المنطقة.
وأعلنت وزارة الدفاع الكمبودية عن إجلاء أكثر من مئة ألف شخص، خلال الأيام الأخيرة، مؤكدة أن 20,105 عائلات أي ما يزيد على 101 ألف نسمة نُقلوا إلى ملاجئ مؤقتة في خمس مقاطعات داخلية، بعد أن توسعت رقعة الاشتباكات لتشمل قرى وبلدات قريبة من خط التماس.
الصور الأولى التي خرجت من المناطق المنكوبة أظهرت طوابير من المدنيين وهم يفرون حاملين ما استطاعوا نقله من ممتلكاتهم، بينما تعمل السلطات المحلية على توفير خدمات طارئة في مخيمات مكتظة تعاني نقصًا في الإمدادات.
في المقابل، قدّر الجيش التايلاندي عدد مواطنيه الذين جرى إجلاؤهم بنحو 400 ألف شخص، وهو رقم يعكس حجم القلق الرسمي من توسع الاشتباكات، لاسيما بعد توالي الاتهامات الكمبودية لبانكوك باستخدام القوة المفرطة واستهداف مناطق سكنية.
ورغم أن الحكومة التايلاندية كانت قد تحدثت سابقًا عن إجلاء 180 ألفًا فقط، فإن تصريحات وزارة الدفاع، أكدت أن “التهديد المباشر للمدنيين” دفع إلى اتخاذ إجراءات أكثر شمولًا.
الطرفان يتبادلان الاتهامات
وتبادل الطرفان الاتهامات بشأن سبب تفجر الاشتباكات الأخيرة، لكن المؤكد أن خطوط النار تمددت سريعًا وشملت مواقع جديدة بطول الحدود التي تمتد 817 كيلومترًا، في وقت تعترف فيه مصادر عسكرية بأن وقف إطلاق النار السابق كان هشًا منذ البداية، وأن أي احتكاك ميداني كان كفيلًا بإعادة إشعال الجبهة.
على الأرض، اتخذت تايلاند موقفًا عسكريًا أكثر حدة. فقد أعلن الجيش، أن دباباته قصفت مجمع كازينو حدوديًا قال إنه يُستخدم من قبل القوات الكمبودية لتخزين الأسلحة، بينما واصلت الطائرات الحربية تنفيذ غارات لليوم الثاني على أهداف وصفتها بأنها “عسكرية استراتيجية”.
ونقلت وسائل الإعلام التايلاندية عن جنرال بارز قوله: إن الهدف من العمليات “إضعاف القدرات العسكرية لكمبوديا لأطول فترة ممكنة”.
في المقابل، اتهمت وزارة الدفاع الكمبودية الجيش التايلاندي بارتكاب انتهاكات خطيرة من خلال “قصف عشوائي ووحشي” للمناطق السكنية.
وبررت تحركاتها العسكرية بأنها إجراءات دفاعية اضطرارية لحماية السكان، نافية الاتهامات بأن قواتها زرعت ألغامًا تسببت في إصابة جندي تايلاندي الشهر الماضي، وهو الحادث الذي أسهم في انهيار ترتيبات التهدئة التي تم الاتفاق عليها في قمة أكتوبر بحضور ترامب.
وساطة عاجزة
ومع انعدام الثقة بين الجانبين، يبدو أن جهود الوساطة تواجه طريقًا مسدودًا. فبينما أعلنت كمبوديا استعدادها لإجراء محادثات “في أي وقت”، شدد وزير الخارجية التايلاندي على أن الظروف السياسية والأمنية الحالية لا تسمح بإطلاق مفاوضات جديدة، ولا حتى بقبول وساطة طرف ثالث.
وفي هذا السياق، دعا وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو إلى وقف فوري للقتال والعودة إلى الالتزامات التي تم التوصل إليها سابقًا، إلا أن تأثير هذه الدعوات ما يزال محدودًا أمام تعقيدات المشهد.
وتشير الإحصاءات الأخيرة إلى أن تسعة مدنيين كمبوديين قتلوا خلال الساعات الماضية، فيما أصيب عشرات آخرون، بينما أعلنت تايلاند مقتل أربعة من جنودها وإصابة 29.
ومع استمرار القصف المدفعي والصاروخي، تزداد المخاوف من امتداد المواجهات وتحولها إلى صراع مفتوح يُهدد الاستقرار في جنوب شرق آسيا، خصوصًا في ظل استخدام طائرات مسيّرة وعمليات بحرية جديدة توسعت بها الاشتباكات إلى مسارات غير تقليدية.
ويرى مراقبون، أن جذور الأزمة أعمق من مجرد اشتباكات حدودية، فهي ترتبط بتاريخ طويل من النزاعات على الأراضي وملفات سياسية داخلية لدى الجانبين.
ومع غياب أفق للحل، يبقى المدنيون الخاسر الأكبر، بينما تنتظر المنطقة إشارات جدية على أن طرفًا ما مستعد لإعادة ضبط بوصلة التصعيد قبل أن تصبح العودة إلى الدبلوماسية حلمًا بعيد المنال.

العرب مباشر
الكلمات