صراع الكبار على أرض بغداد.. هل ينزلق العراق إلى حرب بالوكالة؟
صراع الكبار على أرض بغداد.. هل ينزلق العراق إلى حرب بالوكالة؟

بينما تشتعل نيران المواجهة بين الولايات المتحدة وإيران، يقف العراق مجددًا في مرمى النيران، محاصرًا بين تحالفات متضادة، وضغوط إقليمية تهدد استقراره الهش، في قلب بغداد، وتحديدًا داخل "المنطقة الخضراء" شديدة التحصين، بدا المشهد فجر اليوم وكأنه فصل جديد من رواية لا تنتهي عن الأزمات الأمنية في العراق، انتشار أمني كثيف، استنفار للقوات العراقية، وحالة تأهب قصوى للقوات الأمريكية، وسط تحذيرات من هجمات محتملة قد تنفذها فصائل مسلحة موالية لطهران كرد فعل على الضربات الأمريكية التي طالت منشآت نووية إيرانية، الحكومة العراقية تحاول التوازن على حبل مشدود، ساعية إلى تجنيب البلاد الانزلاق إلى حرب بالوكالة قد تكون مدمرة، بينما تُبقي الفصائل الشيعية على خيار المواجهة مفتوحًا إذا ما تطورت الأمور، هذا المشهد المرتبك يختصر لحظة فارقة، يتقاطع فيها الأمن بالسياسة، وتتجاذب فيها القوى الإقليمية مستقبل العراق.
*السلام أو كارثة*
مع ساعات الفجر الأولى من صباح الأحد، بدت المنطقة الخضراء في العاصمة العراقية بغداد أشبه بمنطقة حرب تستعد لطارئ وشيك، هذه البقعة التي تضم مقار البعثات الدبلوماسية الأجنبية، وفي مقدمتها السفارة الأمريكية، شهدت انتشارًا أمنيًا غير مسبوق، شاركت فيه وحدات من القوات الخاصة العراقية، بالتوازي مع رفع الجاهزية القصوى لقوات التحالف الدولي المنتشرة في البلاد.
مصادر أمنية عراقية أكدت لوسائل إعلام محلية، أن التحركات جاءت استجابة لتحذيرات استخباراتية من احتمال تنفيذ هجمات على مصالح أمريكية في العراق، خاصة في أعقاب التصعيد الأمريكي الأخير ضد إيران.
فقد أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تنفيذ ضربات على ثلاث منشآت نووية إيرانية، من بينها منشأة "فوردو" في محافظة قم، مؤكدًا أن البنية التحتية النووية الإيرانية "تم تدميرها بالكامل"، وصرح ترامب بلهجة لا تخلو من التهديد: "إما السلام أو الكارثة".
*تفاهم مبدئي*
هذا التصعيد المفاجئ وضع العراق، كعادته، في قلب الصراع، نظرًا لوجود فصائل مسلحة شيعية موالية لطهران تنشط داخل أراضيه، وقد دأبت على استهداف المصالح الأمريكية خلال السنوات الماضية في حالات التوتر الإقليمي.
وفقًا لمصادر حكومية عراقية رفيعة، فإن رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، استبق هذا التصعيد بسلسلة اجتماعات مغلقة، كان أبرزها لقاء مع قيادات الفصائل المسلحة المدعومة من إيران مساء الأربعاء الماضي.
الاجتماع، الذي جاء بعد مشاورات مع "ائتلاف إدارة الدولة" الحاكم، أسفر عن تفاهم مبدئي يقضي بعدم إدخال العراق في الصراع الدائر، مع تأكيد على "التمسك بالسيادة ورفض الانخراط في أي حروب بالوكالة".
لكن اللافت، أن هذا التفاهم بدا هشًا، فقد أوضحت الفصائل للسوداني، بحسب المصادر، أن دعم الولايات المتحدة المباشر لإسرائيل في الهجوم على إيران سيُسقط هذا الاتفاق، وسيُطلق يد الفصائل في اتخاذ قراراتها "بمعزل عن الحكومة"، وهو ما يفتح الباب أمام تصعيد داخلي خطير قد يطال السفارة الأمريكية نفسها.
التحركات الأمريكية في العراق تعزز هذه المخاوف، إذ رُصدت، خلال الساعات الماضية، حركة غير اعتيادية للقوات الأمريكية داخل وخارج المنطقة الخضراء، ترافقها إجراءات تشديد أمني وعمليات تمشيط استخباري، كما أُفيد بأن الطائرات المسيرة تحلق بكثافة فوق العاصمة، لرصد أي تحركات مشبوهة أو تهديدات وشيكة.
*الخوف من الفوضى*
أما في الأوساط السياسية، فتسود حالة من الترقب والقلق. فالحكومة العراقية تدرك أن أي انزلاق في اتجاه المواجهة سيعيد سيناريوهات الفوضى، ويقوض ما تبقى من استقرار أمني هش تم تحقيقه خلال العامين الأخيرين.
في المقابل، ترى بعض القوى السياسية أن على بغداد اتخاذ موقف أكثر حزمًا تجاه التدخلات الأمريكية، خصوصًا أن الأراضي العراقية تُستخدم في كثير من الأحيان كمنصة لعمليات عسكرية أمريكية في المنطقة.
حتى الآن، لم تصدر بيانات رسمية من بغداد أو واشنطن لتوضيح الموقف بشكل شامل، لكن التوقعات تشير أن الساعات المقبلة ستكون حاسمة، وأن أي رد فعل إيراني مباشر أو غير مباشر من خلال أذرعها في العراق، سيقلب الموازين رأسًا على عقب.
العراق، الذي يحاول جاهدًا الحفاظ على توازنه في منطقة مضطربة، يواجه اليوم أحد أصعب اختباراته الأمنية والسياسية. وإذا لم يتم احتواء التصعيد، فقد يجد نفسه مرة أخرى ساحة مواجهة مفتوحة بين قوى كبرى، لا تأبه كثيرًا بخرائط النفوذ داخل حدود هذا البلد المنهك.
*توازن هش*
من جانبه، يرى الدكتور باسل الكاظمي المحلل السياسي العراقي، أن المشهد الراهن في العراق يُنذر بانفجار وشيك إذا لم تُضبط الإيقاعات بين الأطراف المتصارعة، ويقول الكاظمي: إن بغداد أصبحت عمليًا "ساحة الاشتباك البديل" بين طهران وواشنطن، خصوصًا مع تعاظم دور الفصائل المسلحة التي لم تعد تخفي ارتباطها الاستراتيجي بالمشروع الإيراني في المنطقة.
وأضاف الكاظمي في حديثه لـ"العرب مباشر"، أن "ما يجري حاليًا هو إعادة تدوير لسيناريوهات شهدها العراق منذ 2003، لكن بخطورة مضاعفة هذه المرة، لأن خطوط التماس باتت أكثر وضوحًا، والرهانات أكبر"، مشيرًا أن الضربات الأمريكية لمنشآت نووية إيرانية تمثل نقطة تحوّل فارقة قد تُحفز الفصائل الموالية لإيران على الرد، حتى لو كان ذلك خلافًا لرغبة الحكومة.
ويرى الكاظمي، أن محاولات رئيس الوزراء محمد شياع السوداني لاحتواء الأزمة عبر التفاهم مع الفصائل تبدو "خطوة عقلانية لكنها محفوفة بالمخاطر"، لأن "القرار الميداني الحقيقي ليس بيد الحكومة بل في يد اللاعبين الإقليميين".
ويختم بالتأكيد أن أي انفجار أمني جديد في بغداد، خصوصًا داخل المنطقة الخضراء، "لن يكون مجرد حادث عابر، بل عنوانًا لانهيار التوازن الهش في دولة تتقاطع فيها مشاريع الدول أكثر مما تلتقى فيها إراداتها الوطنية".
*دوامة عنف*
من جهته، يرى الدكتور طارق فهمي، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة القاهرة، أن العراق بات فعليًا "نقطة التماس الأكثر هشاشة" في صراع المصالح بين الولايات المتحدة وإيران، معتبرًا أن المشهد العراقي يعكس أزمة توازن إقليمي حاد، لا سيما بعد الضربات الأمريكية الأخيرة التي استهدفت منشآت نووية إيرانية.
ويقول فهمي في تصريحات لـ"العرب مباشر": العراق دائمًا ما يجد نفسه في قلب العاصفة، لأنه الدولة الوحيدة التي تتداخل على أرضها شبكات التأثير الأمريكية والإيرانية بهذا العمق والامتداد، مشيرًا أن قدرة الحكومة العراقية على ضبط الفصائل المسلحة تبقى محدودة، خاصة إذا شعرت تلك الفصائل بأن مصالح إيران الإقليمية باتت مهددة.
وأضاف: أن التصريحات الأمريكية، وتحديدًا من الرئيس ترامب، والتي حملت لهجة إنذارية واضحة، تعني أن واشنطن لا تمانع في استخدام العراق كساحة رسائل عسكرية وأمنية تجاه إيران، وهو ما يُربك الحسابات في بغداد، ويضعها أمام معادلة بالغة التعقيد: الحفاظ على السيادة أو الانجراف إلى المواجهة.
وختم فهمي بالتحذير من أن "أي انفجار أمني في المنطقة الخضراء، أو استهداف مباشر للمصالح الأمريكية، قد يكون الشرارة التي تُطلق دوامة من العنف يصعب احتواؤها، خصوصًا إذا دخلت أطراف إقليمية أخرى على خط الصراع".