وداع في إيطاليا.. جنازة شابة فلسطينية تتحول إلى محاكمة علنية لإسرائيل
وداع في إيطاليا.. جنازة شابة فلسطينية تتحول إلى محاكمة علنية لإسرائيل

تحولت جنازة الشابة الفلسطينية مرح أبو زهري، التي فارقت الحياة بعد أيام قليلة من إجلائها من غزة إلى إيطاليا، إلى حدث سياسي وإنساني بارز في مدينة بونتاسيركيو الإيطالية، لم يكن المشهد مجرد وداع لفتاة في التاسعة عشرة من عمرها، بل منصة كشف من خلالها الإيطاليون حجم المأساة التي يعيشها سكان القطاع المحاصر منذ نحو عامين، فبينما لفّ النعش بالعلم الفلسطيني والكوفية، علت هتافات الحاضرين مطالبةً بالحرية لفلسطين، فيما استغل مسؤولون محليون المناسبة لتوجيه اتهامات صريحة لإسرائيل بالمسؤولية عن كارثة إنسانية تتفاقم يومًا بعد آخر، مأساة مرح، التي وصلت إلى أوروبا في وضع جسدي منهار بعد رحلة علاجية عاجلة، أعادت تسليط الضوء على انهيار النظام الصحي في غزة وامتداد شبح المجاعة بين المدنيين، في وقت تواصل فيه إسرائيل نفيها لهذه الوقائع.
نعش وعلم وكوفية
في أجواء حزينة ومشحونة بالرمزية السياسية، اجتمع مئات الأشخاص، أمس الأربعاء، في متنزه "حديقة السلام" بمدينة بونتاسيركيو قرب بيزا الإيطالية، للمشاركة في جنازة الشابة الفلسطينية مرح أبو زهري، البالغة من العمر 19 عامًا، والتي توفيت بعد يومين فقط من وصولها إلى الأراضي الإيطالية ضمن بعثة إجلاء إنسانية.
النعش الملفوف بالعلم الفلسطيني والكوفية لم يكن مجرد رمز شخصي، بل تحوّل إلى مرآة عاكسة لمأساة شعب بأكمله، فقد ردد المشيعون هتافات متواصلة مطالبة بحرية فلسطين، فيما ألقى مسؤولون محليون كلمات صريحة في إدانة السياسات الإسرائيلية تجاه غزة، رئيس بلدية بونتاسيركيو، ماتيو تشيكيللي، أكد أن إقامة المراسم في مكان عام لم يكن قرارًا بروتوكوليًا، بل رسالة واضحة: "لا يمكننا أن نصمت أمام ما يحدث، فالموت الجماعي في غزة ليس قدرًا، بل نتيجة قرار سياسي يرقى إلى الإبادة الجماعية".
رحلة انتهت مبكرًا
كانت مرح قد وصلت إلى إيطاليا على متن طائرة عسكرية ضمن بعثة أقلّت 31 مريضًا فلسطينيًا من غزة مع ذويهم، في خطوة بدت للبعض كنافذة أمل أخيرة. غير أن الشابة لم تصمد طويلًا، إذ دخلت مستشفى بيزا في حالة حرجة، تعاني من هزال شديد وانهيار جسدي كامل. الأطباء الإيطاليون الذين فحصوها أشاروا إلى غياب الأدلة على إصابتها باللوكيميا، وهو التشخيص الذي بنيت عليه عملية إجلائها، مرجحين أنها كانت ضحية تشخيص خاطئ أو غير مكتمل وسط ظروف صحية كارثية في القطاع. بعد يومين فقط من وصولها، أُعلن عن وفاتها نتيجة أزمة تنفسية وسكتة قلبية مفاجئة، لتتحول رحلتها إلى فصل مأساوي جديد يضاف إلى سجل طويل من الضحايا الذين لم يجدوا فرصة للنجاة.
غزة بين المجاعة وانهيار النظام الصحي
حادثة مرح أبو زهري ليست حالة فردية بقدر ما هي انعكاس لوضع كارثي أوسع، فالأمم المتحدة حذّرت مرارًا من أن 22 شهراً من الحرب والحصار دمّرت النظام الصحي في غزة بشكل شبه كامل.
المستشفيات تفتقر إلى الأدوية، وأجهزة التشخيص الأساسية متوقفة، والكوادر الطبية تعمل في ظروف قاسية بلا موارد كافية.
إلى جانب الانهيار الصحي، تتفاقم أزمة الجوع، خبراء الأمن الغذائي التابعين للأمم المتحدة، يؤكدون أن "أسوأ سيناريوهات المجاعة أصبح واقعًا فعليًا"، حيث يعجز السكان عن الحصول على الحد الأدنى من الغذاء والماء.
الأرقام الأممية تكشف حجم الكارثة، منذ أواخر مايو الماضي، قُتل ما لا يقل عن 1760 فلسطينياً أثناء انتظارهم المساعدات، بينهم نحو ألف قُتلوا عند مراكز توزيع الأغذية، وقرابة 766 قضوا على طرق قوافل الإمدادات. هذه الأرقام تلخص المعضلة المزدوجة التي يعيشها الفلسطينيون: الموت جوعًا أو الموت أثناء البحث عن لقمة العيش.
روايتان متناقضتان
بينما يصرّ المجتمع الدولي ومنظمات حقوق الإنسان على أن غزة تواجه كارثة إنسانية بحجم المجاعة، تواصل إسرائيل نفي هذه التقارير، مدعية أن حالات الوفاة تعود إلى أمراض مزمنة سابقة وليست دليلًا على أزمة عامة.
وفي المقابل، انتشرت صور الأطفال الذين يعانون من سوء تغذية حاد على نطاق واسع، حتى إن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب صرّح حديثًا بأن هذه الصور "تعكس جوعًا حقيقيًا لا يمكن إنكاره".
لم تكن مراسم وداع مرح حدثًا عاطفيًا فحسب، بل بدت أقرب إلى تظاهرة سياسية صاخبة. فالحضور الجماهيري، والأعلام الفلسطينية، والهتافات المدوية، أعطت للجنازة بعدًا يتجاوز حدود المدينة الصغيرة.
لقد تحولت إلى منصة للتضامن الشعبي الأوروبي مع غزة، وأداة ضغط رمزية على الحكومات الغربية المتهمة بالصمت أو التواطؤ، وفي هذا السياق، قال رئيس البلدية تشيكيللي: إذا صمت العالم، فنحن لا نستطيع أن نصمت، هذا صوتنا يعلو ليكسر الصمت المريب.