من الثورة إلى الفوضى.. لماذا تنجح الدول حين ترفض الانقسام؟

من الثورة إلى الفوضى.. لماذا تنجح الدول حين ترفض الانقسام؟

من الثورة إلى الفوضى.. لماذا تنجح الدول حين ترفض الانقسام؟
ثورات الربيع العربي

ليست الحروب الأهلية أو الانهيارات السياسية وليدة لحظة مفاجئة أو قرار طائش، بل هي غالبًا محصلة مسار طويل من التآكل الداخلي والتشظي المجتمعي وفقدان الثقة بالمؤسسات، عندما تتحوّل الهويات الوطنية إلى هويات فرعية، ويعلو صوت الطائفة على صوت الدولة، تصبح المجتمعات أكثر هشاشة من أن تقف أمام العواصف، في الشرق الأوسط، لا تندر النماذج ولا تغيب الشواهد، فدولٌ كانت تبدو مستقرة يومًا ما، انهارت بفعل صراعات داخلية تفجّرت على وقع انقسامات سياسية وطائفية، فيما نجت دول أخرى بفضل تماسك نسيجها الاجتماعي وتمركز سلطاتها. 

*السودان: الثورة التي أجهضتها فوهات البنادق*

عقب الإطاحة بنظام عمر البشير عام 2019، دخل السودان مرحلة انتقالية بدت للوهلة الأولى واعدة، لكنها سرعان ما انزلقت إلى هاوية الاقتتال.

الصراع الذي تفجّر في أبريل 2023 بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع حوّل العاصمة الخرطوم إلى ساحة حرب، وأعاد البلاد سنوات إلى الوراء.

خلال شهور قليلة، تحوّلت الثورة إلى كارثة إنسانية؛ قُتل الآلاف، وتشرد أكثر من 12 مليون شخص، واندلعت موجة جديدة من المجازر في دارفور.

ليس السبب في السلاح وحده، بل في غياب المشروع الوطني وانقسام الولاءات بين المكونات العسكرية والسياسية.

يرى الدكتور طارق فهمي أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، أن القاسم المشترك في تجارب الانهيار بدول مثل سوريا والعراق والسودان ولبنان هو "انعدام المشروع الوطني الجامع، وسيادة الهويات الجزئية على حساب الهوية الوطنية".

ويضيف فهمي في حديثه لـ"العرب مباشر"، حين تُبنى الأنظمة السياسية على أساس الولاء للطائفة أو العشيرة أو المنطقة، فإنها تتحول إلى كيانات هشة، وسرعان ما تنهار عند أول اهتزاز كبير، هذه الأنظمة قد تُدار بالتوازنات، لكنها لا تُبنى على الثقة. 

والمشكلة لا تكمن فقط في الحكومات، بل في الثقافة السياسية والاجتماعية التي تكرّس الانقسام بدلاً من الوحدة.

ويشدّد حرب على أهمية ما يسميه "عقد المواطنة"، معتبرًا أن غيابه يفتح الباب لتدخّلات خارجية وقوى موازية تملأ الفراغ الذي تتركه الدولة، "حين يشعر المواطن أن الطائفة تحميه أكثر من الدولة، فهو مستعد للقتال من أجلها لا من أجل الوطن".

ويختم بالتحذير: "ما لم تَعد بناءات الدولة العربية على أسس مدنية ووطنية عادلة، فإن الانفجار القادم مسألة وقت فقط

*لبنان: حين يصبح النظام نفسه مرآة للانقسام*


تعود جذور الحرب الأهلية اللبنانية إلى بنية سياسية تأسست منذ الاستقلال على مبدأ "المحاصصة الطائفية"، حيث توزع المناصب والسلطات حسب الانتماء الديني.

في عام 1975، انفجرت البلاد في صراع دموي استمر أكثر من 15 عامًا، شهد خلالها لبنان تدخلات إقليمية وولادة ميليشيات مسلحة نازعت الدولة سلطتها. ومع انتهاء الحرب باتفاق الطائف، لم تُحلّ جذور الأزمة.

بل استمرت الدولة اللبنانية عاجزة عن فرض سلطتها الكاملة، وسط نفوذ ميليشيات وسلاح خارج سلطة القانون. إلى اليوم، ما يزال لبنان يعاني من شلل سياسي واقتصادي، يعكس أزمة الهوية والبنية.

يرى الدكتور مصطفى علوش، النائب والقيادي السابق في تيار المستقبل، أن ما جرى في لبنان منذ الحرب الأهلية وحتى اليوم ليس إلا نتيجة حتمية لبنية سياسية مشوّهة نشأت على قاعدة "الطوائف أولاً، والدولة لاحقًا"، وهي معادلة وصفها بأنها "وصفة ثابتة للفوضى".

وأوضح في حديثه لـ"العرب مباشر"، أن نظام المحاصصة الطائفية في لبنان لم ينتج إلا دولة عاجزة ومؤسسات مفرغة من مضمونها، ومواطنين يعيشون في ظلال زعماء الطوائف لا تحت مظلة القانون.

ويؤكد علوش، أن بقاء الميليشيات وتحول بعضها إلى قوة سياسية وعسكرية موازية للدولة، جعل فكرة الدولة المركزية بعيدة المنال.

ويختم بالقول: "لبنان لا يحتاج إلى إصلاح تقني، بل إلى ثورة مفاهيم تعيد تعريف الهوية الوطنية خارج عباءة الطائفة والولاء الخارجي، وإلا فإن تكرار السيناريوهات السودانية أو السورية سيبقى احتمالًا قائمًا".

*العراق: من الدولة المركزية إلى فسيفساء الصراعات*

لم يكن الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 مجرد تغيير لنظام سياسي، بل هدمًا لمؤسسات الدولة بأكملها، حلّ الجيش، وتفكك جهاز الدولة، وتحوّلت البلاد إلى ساحة مفتوحة لصراع مذهبي دموي بين السنّة والشيعة، ساعد على تأجيجه الاحتلال وتدخلات دول الجوار.

ومن رحم هذا الانفلات، وُلدت تنظيمات متطرفة مثل "القاعدة"، ثم "داعش"، لتتحوّل مدن عراقية بأكملها إلى إمارات للسلاح والموت.

وعلى الرغم من محاولات التعافي، ما يزال العراق يواجه تحديات الانقسام المجتمعي وفوضى الميليشيات التي تحولت إلى أدوات للنفوذ السياسي.

*سوريا: وطن تكسّرت خرائطه على جدار الثورة*

وهو ما تكرر عندما خرج السوريون إلى الشوارع عام 2011 مطالبين بالإصلاح السياسي، لم يكن أحد يتخيل أن بلدهم سيتحول إلى ساحة لحرب أهلية متعددة الأوجه. ومع إصرار النظام على البقاء، وسرعة عسكرة الانتفاضة، انزلقت سوريا إلى اقتتال شامل.

تشكّلت فصائل عسكرية، وانقسم الجيش، وتدخلت قوى إقليمية ودولية في المشهد—من إيران وروسيا إلى تركيا والولايات المتحدة. 
وباتت سوريا اليوم مقسّمة بحكم الأمر الواقع إلى مناطق نفوذ متعددة: سوريا النظام، وسوريا المعارضة، وسوريا الكرد، وسوريا النصرة، مشهد يعكس غياب المشروع الجامع وتفكك الهوية الوطنية أمام الانتماءات الضيقة.

*مصر: درس في التماسك والوعي الشعبي*


رغم ما شهدته مصر من اضطرابات سياسية منذ 2011، فإنها نجحت في الحفاظ على وحدتها وتماسك مؤسساتها.

لم تسمح الدولة المصرية بظهور كيانات مسلحة موازية أو محاولات تفتيت. الجيش المصري، كمؤسسة متماسكة، ظلّ الضامن الأكبر لوحدة البلاد واستقرارها.

كما لعب النسيج المجتمعي المتنوع دورًا حاسمًا في صدّ محاولات إشعال الفتن الطائفية. فعندما استهدف الإرهاب الكنائس، قال المصريون بوضوح: "كنيستي مثل مسجدي، والدم واحد".

هذا الوعي الشعبي، المدعوم بموقف مؤسساتي صلب، هو ما أنقذ مصر من السيناريوهات التي مزقت غيرها.