من وقف إطلاق النار إلى إعادة البناء.. مفاوضات عمّان ترسم ملامح المرحلة المقبلة في سوريا
من وقف إطلاق النار إلى إعادة البناء.. مفاوضات عمّان ترسم ملامح المرحلة المقبلة في سوريا

في مشهد دبلوماسي يعكس تعقيدات الملف السوري وتشابك مصالح الفاعلين الإقليميين والدوليين، احتضنت العاصمة الأردنية عمّان لقاء ثلاثيًا غير مسبوق جمع مسؤولين من الأردن وسوريا والولايات المتحدة، بهدف مناقشة مستقبل سوريا وإيجاد مقاربة مشتركة لمعالجة الأزمة المستمرة منذ أكثر من عقد، يأتي الاجتماع في ظل تحولات أمنية حساسة في محافظة السويداء، التي شهدت مؤخرًا مواجهات مسلحة كادت تنزلق إلى صراع أهلي واسع، قبل أن يتم تثبيت وقف إطلاق النار.
اللقاء لم يقتصر على الجانب الأمني، بل امتد إلى ملفات إعادة الإعمار، والمصالحة المجتمعية، وضمان مشاركة مختلف المكونات السورية في صياغة مستقبل البلاد.
ومع انفتاح واشنطن على خطوات سورية في مجال التحقيقات الحقوقية، وحرص الأردن على تقديم خبراته المؤسساتية، يبدو أن عمّان تحاول لعب دور "الجسر السياسي" بين دمشق والعواصم الغربية، في محاولة لتجاوز الجمود وفتح مسارات تعاون تعيد لسوريا بعضًا من استقرارها المفقود.
*فرص للتسوية*
شهدت عمّان، أمس الثلاثاء، جولة جديدة من الحراك الدبلوماسي حول الملف السوري، حيث اجتمع وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي، ورئيس سلطة الخارجية السورية أسعد الشيباني، والمبعوث الأمريكي الخاص لسوريا والسفير لدى تركيا توماس باراك، إلى جانب ممثلين عن مؤسسات حكومية من الدول الثلاث، لمناقشة سبل دعم استقرار سوريا وإعادة بنائها.
الاجتماع جاء استكمالًا لمباحثات عقدت في 19 يوليو 2025، ركزت على تثبيت وقف إطلاق النار في محافظة السويداء، التي أصبحت مؤخرًا بؤرة اختبار لقدرة الأطراف السورية على احتواء النزاعات المحلية وتحويلها إلى فرص للتسوية.
*السويداء.. اختبار الوحدة السورية*
أبرز ما شدد عليه المجتمعون هو أن محافظة السويداء، بكل مكوناتها الاجتماعية والثقافية، تمثل جزءًا لا يتجزأ من النسيج الوطني السوري، وأن أي مشروع لإعادة بناء "سوريا الجديدة" لا يمكن أن يكتمل دون ضمان حقوق سكانها التاريخية والسياسية، وتمثيلهم الفعلي في مؤسسات الدولة ومسارات صناعة القرار.
وقد تضمن هذا الالتزام الإقرار بخصوصية المحافظة التي تجمع بين غالبية درزية ومكونات بدوية وعشائرية، إضافة إلى أقليات أخرى، ما يجعلها نموذجًا مصغرًا للتنوع السوري، وفي الوقت ذاته ساحة حساسة لأي توترات.
تزداد أهمية هذا التوافق في ضوء الأحداث العنيفة التي شهدتها المحافظة منتصف يوليو الماضي، حين اندلعت مواجهات مسلحة بين مجموعات بدوية ومقاتلين من الطائفة الدرزية على خلفية نزاعات محلية متشابكة مع قضايا أوسع، مثل تهريب السلاح والمخدرات، وتنافس النفوذ بين القوى المحلية.
ومع سرعة انتشار العنف وتحوله إلى معارك مفتوحة في بعض القرى، بدا أن السويداء على حافة انزلاق نحو صراع أهلي طويل الأمد، لولا التدخل العسكري المباشر من السلطات السورية، الذي أسفر عن فرض وقف شامل لإطلاق النار ودخوله حيز التنفيذ، ليتيح فرصة ثمينة للمصالحة المجتمعية وإعادة ترتيب البيت الداخلي.
*ملفات إنسانية وحقوقية على الطاولة*
رحب الأردن والولايات المتحدة بخطوات دمشق الأخيرة، وفي مقدمتها الشروع في تحقيقات شاملة بشأن الانتهاكات التي شهدتها السويداء، ومحاسبة المسؤولين عنها، مع الاستعداد لإشراك الأمم المتحدة في هذا المسار.
كما أبدت الأطراف دعمها لزيادة تدفق المساعدات الإنسانية إلى المحافظة وتعزيز التعاون مع وكالات الإغاثة الدولية، باعتبار ذلك ركيزة لتعزيز السلم الأهلي وتهيئة بيئة مناسبة للمصالحات المجتمعية.
من بين أبرز مخرجات الاجتماع، موافقة الأطراف على تشكيل "مجموعة عمل ثلاثية" تضم سوريا والأردن والولايات المتحدة، هدفها دعم دمشق في تثبيت وقف إطلاق النار وتقديم المشورة الفنية والأمنية والإدارية، بما يعزز قدرة المؤسسات السورية على إدارة المرحلة الانتقالية.
ومن المقرر أن يعقد اجتماع آخر خلال الأسابيع المقبلة لاستكمال النقاشات، ما يعكس رغبة الأطراف في البناء على الزخم السياسي الحالي بدل تركه يتبدد.
الملك عبد الله الثاني، الذي التقى الشيباني وباراك على حدة، أكد أن الأردن ليس مجرد وسيط محايد، بل شريك يسعى لحماية أمن سوريا واستقرارها، لما لذلك من انعكاس مباشر على الأمن الوطني الأردني.
وأبدى استعداد المملكة لتقديم خبراتها في مجالات إعادة بناء المؤسسات، وإصلاح القطاعات الأمنية والخدمية، إضافة إلى مكافحة الإرهاب ووقف شبكات تهريب السلاح والمخدرات، وهي ملفات تمسّ بشكل مباشر المصالح المشتركة لعمان ودمشق وواشنطن.
*أبعاد إقليمية ودولية*
وفقًا لمراقبين، فأن التحرك الأمريكي في هذا المسار يعكس إدراك واشنطن أن استقرار السويداء قد يشكل نموذجًا يمكن تعميمه على مناطق أخرى في سوريا، خاصة تلك التي تعاني من هشاشة أمنية وتوترات طائفية أو إثنية.
أما بالنسبة لدمشق، فإن الانخراط في هذه المفاوضات يمثل فرصة لإظهار استعدادها للتعاون مع المجتمع الدولي في ملفات إنسانية وحقوقية، ما قد يفتح الباب لتخفيف العزلة السياسية والاقتصادية المفروضة عليها.
ورغم الأجواء الإيجابية، تواجه هذه المبادرة تحديات جوهرية، أبرزها هشاشة الثقة بين الأطراف، وتداخل الملفات الإقليمية المعقدة، مثل النفوذ الإيراني في الجنوب السوري، والمخاوف الإسرائيلية من أي ترتيبات قد تعزز وجود قوات غير حكومية قرب حدودها. كما أن الأزمة الاقتصادية في سوريا ستظل عامل ضغط دائم، ما لم تترافق المبادرات السياسية بخطط دعم مالي وتنموي ملموس.
*اختبار عملي لـ"دمشق"*
من جانبه، يرى الكاتب والمحلل السياسي السوري عبد الرحمن ربوع، أن اجتماع عمّان الأخير يحمل دلالات عميقة تتجاوز الملف المحلي لمحافظة السويداء، إذ يعكس بداية اختبار عملي لقدرة دمشق على الانفتاح على شراكات إقليمية ودولية بعد سنوات من العزلة.
ويؤكد ربوع، أن إدراج السويداء كبوابة لبدء هذا المسار ليس مصادفة، فالمحافظة تتمتع بتركيبة اجتماعية متماسكة نسبيًا، وقرب جغرافي من الأردن، ووزن سياسي ومعنوي داخل الخارطة السورية.
ويشير ربوع في حديثه لـ"العرب مباشر"، إلى أن مشاركة الولايات المتحدة في هذه المباحثات، رغم التباينات الكبيرة مع دمشق، تمثل مؤشرًا على وجود رغبة أمريكية في تجريب صيغ تعاون محدودة النطاق، يمكن البناء عليها لاحقًا في ملفات أوسع.
لكنه يحذر في الوقت ذاته من أن أي نجاح في هذا المسار مرهون بقدرة الحكومة السورية على تقديم ضمانات حقيقية بشأن الحقوق السياسية والأمنية لسكان السويداء، وتجنب العودة إلى الأساليب الأمنية التقليدية في إدارة الأزمات.
كما يرى أن الدور الأردني سيكون حاسمًا في هذا الإطار، بحكم علاقاته المتوازنة مع واشنطن ودمشق، وقدرته على لعب دور "الموازن" بين المصالح المتعارضة.
ويختتم ربوع بالقول: إن نجاح تجربة السويداء قد يشكل نموذجًا لمرحلة جديدة في التعاطي مع الملف السوري، لكنه يظل محفوفًا باختبارات صعبة على المستويين الداخلي والإقليمي.