من الشارع إلى السلاح.. كيف خرجت احتجاجات الساحل عن مسارها؟

من الشارع إلى السلاح.. كيف خرجت احتجاجات الساحل عن مسارها؟

من الشارع إلى السلاح.. كيف خرجت احتجاجات الساحل عن مسارها؟
احتجاجات الساحل

عاد الساحل السوري إلى صدارة المشهد السياسي والأمني، لا باعتباره منطقة هامشية بعيدة عن خطوط التماس، بل بوصفه ساحة اختبار حقيقية لقدرة الدولة السورية على إدارة مرحلة شديدة الحساسية، ما بدأ باحتجاجات ذات طابع معيشي ومطلبي في مدينتي اللاذقية وطرطوس، سرعان ما تحول إلى مشهد مركب، اختلط فيه المدني بالمسلح، والمطلب الاجتماعي بالرسائل السياسية، والسلمي بالعنيف، السلطات ردّت بتعزيز الانتشار الأمني والعسكري، في محاولة لاحتواء انفلات مفاجئ خلّف قتلى وجرحى، وسط اتهامات رسمية لـ فلول النظام السابق بمحاولة استثمار الغضب الشعبي لإعادة إنتاج الفوضى. 

وفي منطقة لها خصوصيتها الاجتماعية والطائفية والسياسية، يصبح أي اهتزاز أمني أكثر خطورة، وأي خطأ في التقدير أكثر كلفة. فالساحل اليوم لا يطرح فقط سؤال "ماذا جرى؟"، بل يفرض سؤالًا أعمق، كيف تُدار الدولة في لحظة انتقالية، دون أن تنفلت من يدها الجغرافيا أو المجتمع.

من احتجاجات مطلبية إلى اشتباكات دامية

وفق بيانات وزارة الداخلية السورية، أسفرت الاشتباكات التي رافقت التظاهرات عن سقوط ثلاثة قتلى وإصابة نحو ستين شخصًا، من المدنيين وعناصر الأمن. 

الرواية الرسمية تؤكد أن الاحتجاجات، التي انطلقت بدعوات وُصفت بالسلمية، تعرضت لاختراق سريع عبر مسلحين ملثمين فتحوا النار؛ ما دفع قوات الأمن إلى التدخل المباشر.

التظاهرات رفعت شعارات تدعو إلى الفيدرالية أو اللامركزية الإدارية، وهي مطالب ظهرت استجابة لدعوات أطلقها رجل دين علوي، قبل أن تتحول، بحسب السلطات، إلى منصة لاشتباك مسلح يهدد السلم الأهلي. 

وهنا يبرز الفارق الجوهري بين المطلب السياسي بوصفه تعبيرًا عن خوف أو قلق، وبين تحويله إلى أداة ضغط عبر السلاح.

التوقيت.. عامل لا يمكن تجاهله

ما يزيد من خطورة المشهد أن هذه الأحداث جاءت بعد فترة قصيرة من تفجير إرهابي استهدف مسجدًا في حمص، وفي ظل تقارير إعلامية غربية، أبرزها تقرير لصحيفة نيويورك تايمز، تحدث عن محاولات من جنرالات ومسؤولين سابقين في نظام بشار الأسد لزعزعة استقرار الحكومة الجديدة، عبر تمويل وتسليح مجموعات تسعى للسيطرة على مناطق في الساحل.

هذه التقارير، سواء اتفقنا أو اختلفنا معها، تضيف طبقة جديدة من الشك والريبة إلى أي تحرك شعبي، وتجعل الدولة أكثر حساسية تجاه أي احتجاج، حتى لو كان سلميًا في بدايته.

قراءة أولى احتجاج محق واختراق كارثي

الكاتب والمحلل السياسي السوري أحمد شيخو يرى أن ما جرى بدأ كتظاهرات مدنية ذات مطالب محقة»، لكنه يؤكد أن استغلالها لم يكن في صالح أهل الساحل، ويشير إلى أن تغلغل فلول النظام السابق حوّل الحراك من مساحة ضغط مدني إلى حالة فوضى مفتوحة.

شيخو يلفت في حديثه لـ"العرب مباشر"، إلى نقطة جوهرية، غياب القيادة والتنظيم، فالمطالب، مهما كانت عادلة، حين تُطرح بلا أطر واضحة، تصبح سهلة الاختراق من جهات لا تؤمن بالدولة، بل ترى في الفوضى فرصة.

ويحذر من أن أي انفلات أمني في الساحل لن ينتج عنه سوى مزيد من الفقر والمعاناة، في منطقة تعاني أصلًا من هشاشة اقتصادية وضعف الموارد.

كما يشير إلى إرث ثقيل تركه النظام السابق، يتمثل في كثافة مستودعات السلاح، معتبرًا أن بضع مئات من الدولارات كفيلة بإشعال بؤر توتر، خاصة في ظل وجود ضباط سابقين يرفضون الاندماج في الدولة الجديدة.

الأمن أولًا.. قبل السياسة

من زاوية أخرى، يطرح شيخو سؤال، ماذا فعلت الحكومة خلال العام الماضي لسحب الذرائع ممن يستهدفونها؟

شيخو يرى، أن التركيز على التهديدات وحدها لا يكفي، مؤكدًا أن المطلب الأساسي لأهالي الساحل، وللعلويين تحديدًا، هو الأمن والأمان، قبل أي نقاش سياسي أو دستوري.

ويرى، أن رفع شعار الفيدرالية لا يعني بالضرورة نزعة انفصالية، بل قد يكون تعبيرًا دفاعيًا عن شعور عميق بالخوف وانعدام الثقة.

 فبحسب شيخو لا يطالب علويّو الساحل بحماية خارجية أو كيان مستقل، بل يريدون أن يعيشوا كمواطنين كاملين في دولة تحميهم.

في المقابل، ينتقد شيخو ما يعتبره هيمنة متزايدة للخطاب الديني على مفاصل الدولة، مؤكدًا أن دور رجال الدين يجب أن يبقى في إطاره الروحي، لا داخل المؤسسات التنفيذية.

معادلة شديدة التعقيد

مشهد الساحل السوري اليوم يعكس أزمة أعمق من مجرد احتجاجات أو اشتباكات. إنه اختبار لقدرة السلطة على تحقيق توازن بالغ الصعوبة، فرض الأمن دون انزلاق إلى القبضة الخشنة، والاستجابة للمطالب المشروعة دون فتح الباب أمام مشاريع الفوضى.

ومع تداخل الملفات من الساحل إلى السويداء، ومن الشمال الشرقي إلى الداخل، تبدو مهمة الحفاظ على السلم الأهلي أكبر تحدٍ يواجه دمشق في المرحلة المقبلة. 
فالدولة التي لا تسمع مخاوف مواطنيها تترك فراغًا، والفراغ في سوريا لطالما كان مدخلًا للعنف.