إرث العائلة والرسائل السياسية.. لماذا يصرّ زعيم كوريا الشمالية على القطار؟

إرث العائلة والرسائل السياسية.. لماذا يصرّ زعيم كوريا الشمالية على القطار؟

إرث العائلة والرسائل السياسية.. لماذا يصرّ زعيم كوريا الشمالية على القطار؟
زعيم كوريا الشمالية

حينما يغادر الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون عاصمة بلاده بيونغ يانغ، لا تترقّب أجهزة الاستخبارات العالمية تحليق طائرة رئاسية في الأجواء، بل تترصّد حركة قطار أخضر داكن يقطع الحدود ببطء، كاشفًا بداية رحلة سياسية ذات أبعاد رمزية، هذا القطار المصفّح، الذي تحيط به هالة من الغموض والأساطير، ليس وسيلة تنقّل عادية، بل أداة بروباغندا، واستعراض قوة، ومنصة دبلوماسية متنقّلة في آن واحد، منذ أن تولّى كيم السلطة عام 2011، لم يكن القطار مجرّد وسيلة آمنة لنقله، بل صار رمزًا لخصوصية نظام يهوى الجمع بين الحذر الأمني والترف المبالغ فيه، وبين الإرث العائلي والاستراتيجية السياسية، من المقاعد المزخرفة والمطابخ المجهزة بأفخم الأطعمة إلى الدرع الحديدي الذي يغلّف العربات من كل جانب، يجمع القطار بين عالمين، عالم الحاكم المطلق وعالم الدولة المحاصرة، وفي كل مرة يظهر القطار على الشاشات، لا ينقل فقط قائده، بل ينقل رسالة صامتة إلى العالم بأن كوريا الشمالية تسير على قضبانها الخاصة، خارج إيقاع الآخرين.

قلعة حديدية


تتجاوز قصة القطار المصفّح للزعيم كيم جونغ أون حدود المظهر الفخم والتقنية العسكرية، لتصبح امتدادًا لنهج كوريا الشمالية في صناعة الرمزية السياسية، فالقطار الأخضر، الذي يتنقّل بسرعة لا تتجاوز 60 كيلومترًا في الساعة، أشبه بقلعة متنقّلة مصممة لمواجهة التهديدات المحتملة، من القذائف إلى التفجيرات، وفقًا لصحيفة "تليغراف".

كل عربة مصفّحة ومزوّدة بأنظمة حماية تجعل الرحلة بطيئة لكنها بالغة الأمان، وكأن بيونغ يانغ تفضّل البطء الآمن على المخاطرة السريعة، هذه الاستراتيجية لا تعكس فقط حسابات أمنية، بل تحمل في طياتها رسالة للعالم بأن "كيم" لا يستعجل خطواته، وأن ظهوره يجب أن يتم وفق إيقاعه الخاص.

ترف يخفي وراءه صرامة أمنية


ورغم صورة "القلعة"، فإن الداخل يعكس جانبًا آخر، رفاهية تفوق التوقعات، تقارير كثيرة تحدّثت عن صناديق مليئة بالمشروبات الفاخرة وجراد البحر الحي، وعن مطابخ قادرة على إعداد أطباق من المطابخ الروسية والكورية والفرنسية والصينية.

كما تكشف مقاطع الفيديو الرسمية عن أرائك وردية، إنارة على شكل زهور، ومكاتب مزوّدة بخرائط تفصيلية، ليبدو القطار وكأنه قصر ملكي يسير فوق القضبان.

إرث عائلي قبل أن يكون خيارًا سياسيًا 


لا يمكن فهم هوس كيم بالقطار من دون العودة إلى الإرث العائلي، فجده، كيم إيل سونغ، اعتاد استخدام القطارات في تنقلاته الدولية حتى وفاته عام 1994. أما والده، كيم جونغ إيل، فكان يخشى ركوب الطائرات، فاقتصرت رحلاته على القطارات المصفّحة التي قادته حتى موسكو عام 2001 في رحلة استغرقت 24 يومًا قطع خلالها 20 ألف كيلومتر. 

ويُقال: إن كيم الأب لفظ أنفاسه الأخيرة عام 2011 على متن قطار خلال جولة داخلية. بهذا المعنى، لم يكن خيار القطار عند كيم الابن محض صدفة، بل استمرارًا لإرث يربط العائلة الحاكمة بالسكك الحديدية، في صورة تبدو جزءًا من "أسطورة الحكم" التي تصوغها بيونغ يانغ حول قادتها.

قطار أم أداة بروباغندا؟


اختيار القطار بدلاً من الطائرة ليس قرارًا أمنيًا فقط، بل جزء من لعبة إعلامية محسوبة. فكل رحلة طويلة بالقطار تتحول إلى حدث عالمي يثير الترقّب، من عبور الحدود الصينية إلى الظهور المفاجئ في أقصى شرق روسيا.

وبينما يركّز الإعلام الدولي على تفاصيل الرحلة، يضمن كيم أن يظل في دائرة الضوء حتى قبل وصوله إلى وجهته.

ويقول محللون:@ إن بطء الرحلة نفسه يخدم غاية سياسية، فكل يوم يمر وهو على متن القطار يضاعف الاهتمام العالمي، ويعيد تذكير الجميع بأن بيونغ يانغ تفرض إيقاعها الخاص على الأحداث، وفقًا لصحيفة "تليغراف".

أبعاد استراتيجية تتجاوز الرفاهية


القطار لا يقدّم الأمان والترف فقط، بل يوفّر لكيم مرونة لوجستية نادرًا ما تتيحها الطائرات، ففي حال وقوع أي تهديد جوي، يمكن للقطار تغيير مساره أو التوقف في أي محطة داخل الأراضي الصديقة، بينما يصعب تحقيق ذلك في الجو. 

كما يتيح له اصطحاب طاقم أمني وطبي واستشاري واسع، ما يحوّل الرحلة إلى مقرّ قيادة متنقّل، بل إن بعض التقارير تشير إلى أن القطارات قد تحمل تجهيزات دفاعية وهجومية متقدمة، تجعلها أكثر من مجرد وسيلة نقل، بل منصة عسكرية متنقلة.

على المستوى الداخلي، يظل القطار جزءًا من الدعاية التي تُظهر القادة قريبين من الشعب عبر رحلات "التوجيه الميداني"، فظهور كيم في عربات القطار وهو يتفقد محاصيل الذرة أو يتحدث مع الجنرالات يعزز صورة "القائد العائش بين شعبه"، رغم التناقض مع حياة الترف التي يعيشها، أما على المستوى الخارجي، فإن القطار يُستخدم كأداة رمزية لإظهار تحدي كوريا الشمالية للعزلة الدولية، والإيحاء بأنها قادرة على الحفاظ على تقاليدها الخاصة بعيدًا عن الضغوط الغربية.