قتله الداخل بعد نجاته من القصف.. حكاية صالح الجعفراوي آخر شهود غزة

قتله الداخل بعد نجاته من القصف.. حكاية صالح الجعفراوي آخر شهود غزة

قتله الداخل بعد نجاته من القصف.. حكاية صالح الجعفراوي آخر شهود غزة
صالح الجعفراوي

لم يكن صالح الجعفراوي مجرد شاب يحمل كاميرا، بل كان ضميرًا بصريًا لغزة، يوثّق ملامحها بين أنقاض القصف وأصوات الانفجارات، نجا من الموت مرات لا تُحصى تحت القنابل الإسرائيلية، لكنه لم ينجُ من رصاصةٍ خرجت من قلب مدينته. 

في لحظة بدت عبثية وموجعة، انتهت حياة أحد أبرز الأصوات الفلسطينية التي جعلت العالم يرى غزة كما لم يرها من قبل: مدينة تقاوم وتتنفس رغم الدمار، اغتيال الجعفراوي لم يكن مجرد حادث عرضي، بل صدمة أخلاقية لجيلٍ كامل وجد في عدسته نافذة على الحقيقة، وفي شجاعته درعًا للكرامة، وبينما يتناقل المتابعون صوره الأخيرة، يتجدد السؤال: كيف يمكن للحقيقة أن تصمد إذا سقط حاملوها؟ وكيف يتحول حامل الكاميرا إلى ضحية لصراعات الداخل بعدما أفلت من قصف الخارج؟

من العدسة إلى الأسطورة


في عمر لم يتجاوز السادسة والعشرين، أصبح صالح الجعفراوي أحد أبرز الأصوات البصرية التي نقلت مآسي الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة إلى العالم.

بدأ مسيرته بكاميرا صغيرة وهاتف محمول، لكنه سرعان ما تحوّل إلى شاهد على عصرٍ يختلط فيه الدم بالصورة، والوجع بالثبات.

لم يكن يتقن فنون التصوير الأكاديمي، لكنه أتقن شيئًا أهم، أن يجعل الصورة تنطق.

خلال العامين الماضيين، تحوّل حسابه على "إنستغرام" إلى نافذة يومية لحياة الفلسطينيين تحت النار، وتجاوز عدد متابعيه ثلاثة ملايين شخص، لم يكن ينقل فقط مشاهد الدمار، بل أيضًا لحظات البقاء البسيطة: طفل يضحك وسط الركام، أمّ تخبز في الظلّ، أو شابّ يرفع الأذان في حيّ محطّم، في كل لقطة، كان الجعفراوي يقول للعالم: "نحن أحياء رغم الموت".

اغتيال داخلي يهزّ غزة


مساء الأحد، تحوّلت غزة من مسرح حرب مع إسرائيل إلى ساحة اشتباك داخلي، في حيّ الصبرة جنوب المدينة، اندلعت مواجهات بين عناصر من حركة حماس ومسلحين من عائلة دغمش، خلّفت ثمانية قتلى على الأقل، بينهم صالح الجعفراوي ونجل القيادي في الحركة باسم نعيم.

الخبر وقع كالصاعقة، ليس فقط لأن الضحية صحفي معروف، بل لأنه نجا مرارًا من قصف إسرائيلي كان يلاحقه بالاسم، ليُقتل أخيرًا برصاص فلسطيني، تناقلت منصات التواصل صوره الأخيرة وهو يوثّق الحياة اليومية قبل ساعات من رحيله، وكأنها نبوءة مصوّرة لنهاية غير متوقعة.

الجعفراوي في مرمى إسرائيل


لم يكن الجعفراوي محبوبًا فقط في الأوساط الفلسطينية، بل أيضًا هدفًا معلنًا للإعلام الإسرائيلي. فقد شنّت عليه قنوات عبرية حملات اتهام متكررة، زاعمة أنه "يفبرك" المشاهد لجذب التعاطف العالمي، وسبق أن نشر صورة "نشرة حمراء" إسرائيلية تحمل اسمه وصورته، مرفقة بعبارة مؤثرة كتب فيها:


"إذا متّ، لا تصدقوا روايتهم، أنا صحفي حرّ، وواجب العالم أن يحميني لا أن يلاحقني".


ورغم هذه التهديدات، واصل توثيق ما يجري، متحديًا الخطر ومؤمنًا بأن "الكاميرا أقوى من الرصاصة".

حزن وغضب على مواقع التواصل


مع انتشار خبر مقتله، اشتعلت مواقع التواصل بوسم #الجعفراوي_شهيد_الكاميرا، حيث نعاه الآلاف من الصحفيين والنشطاء حول العالم. كتبت الصحفية الأمريكية "بريتني مورفي": 
"خسارة الجعفراوي تذكير مؤلم بأن الكلمة والصورة في فلسطين  ما تزالان هدفًا".

بينما قال زميله الصحفي محمد الخطيب: 


"رحل صالح بعد أن نجا من الطائرات.. لكنه لم ينجُ من الرصاص الفلسطيني. يا للخسارة!".

تفاعل الناس مع الحدث لم يكن عاطفيًا فحسب، بل حمل غضبًا مكتومًا من واقعٍ باتت فيه الكاميرا تُصادر أو تُسكت، حتى من قبل من يفترض أنهم يقاتلون من أجل الحرية.

رمزية الرحيل وأسئلة ما بعد الموت

يرى محللون، أن رحيل الجعفراوي في هذا التوقيت يرمز إلى مأساة أعمق: حين تبتلع الفوضى صوت الحقيقة. فالمشهد الإعلامي في غزة يعاني من تضييق متزايد، وحوادث استهداف الصحفيين سواء من الخارج أو الداخل أصبحت جزءًا من المشهد اليومي.

يقول الكاتب الفلسطيني ناصر جمعة:
"صالح لم يمت برصاص طائش، بل في معركة على من يملك السرد. موته جرس إنذار بأن الحرية التي نطالب بها من العدو، علينا أن نحميها أيضًا من أنفسنا."

إرث الصورة


رغم النهاية المأساوية، سيبقى الجعفراوي حاضرًا في ذاكرة الفلسطينيين والعالم. أرشيفه المليء بالدموع والأمل، سيظل شاهدًا على مرحلة لم توثقها عدسات القنوات الرسمية كما فعل هو.

ربما غابت الكاميرا التي واجهت القصف، لكن الصور التي التقطها ستبقى حيّة، تحكي عن شاب قرّر أن يقاوم بعدسته، وأن يترك خلفه ذاكرة لا يمكن إسكاتها.