ذكرى المرفأ الخامسة.. هل ينجو القضاء اللبناني من عباءة الحزب؟

ذكرى المرفأ الخامسة.. هل ينجو القضاء اللبناني من عباءة الحزب؟

ذكرى المرفأ الخامسة.. هل ينجو القضاء اللبناني من عباءة الحزب؟
انفجار مرفأ بيروت

في بيروت، المدينة التي اعتادت أن تنهض من رمادها، تحل الذكرى الخامسة لانفجار مرفأ الرابع من أغسطس وكأن الجرح لم يلتئم بعد، لكنه بدأ ينبض مجددًا في وجه سلطة أرادت طيّه، خمسة أعوام مرت منذ اهتزت العاصمة تحت وطأة انفجار هو الأضخم في تاريخها، وأسفر عن مقتل أكثر من مئتين وجرح الآلاف وتدمير أحياء كاملة.

 لكنّ الكارثة لم تكن فقط في الدمار، بل في مسار تحقيقات تعثر طويلاً تحت وطأة النفوذ السياسي، قبل أن يعود إلى الحياة اليوم، بحسب السلطات القضائية، إذ تبدو قبضة حزب الله، التي عرقلت العدالة لسنوات، في تراجعٍ بفعل تحولات داخلية وإقليمية، وبين وعد بالقصاص وتوجّس من عودة العرقلة، يعود ملف المرفأ إلى الواجهة، مثقلًا بالغضب والأمل، فهل نشهد أخيرًا كشف الحقيقة، أم أن العدالة ستبقى مرهونة بمصالح لا ترى في دماء الضحايا إلا تفصيلاً مؤجلًا.

*تراجع حزب الله*


في الذكرى الخامسة لانفجار مرفأ بيروت، تتجدد مشاعر الحزن والخذلان بين أهالي الضحايا، لكن ثمة تغيرًا لافتًا هذا العام: للمرة الأولى منذ 2020، يعلن القاضي طارق البيطار أنه يوشك على إنهاء التحقيقات، وسط تراجع ملحوظ في الضغوط السياسية التي عطلت العدالة طيلة أربع سنوات.

فقد أُعيد تحريك الملف القضائي بعد توقف دام عامين، وتستعد النيابة العامة التمييزية لتلقي نتائج التحقيق تمهيدًا لإصدار القرار الاتهامي.

يرى مراقبون، أن ما كان مستحيلاً قبل عام، أصبح ممكنًا اليوم، ليس بفعل تغيير في بنية النظام السياسي اللبناني، بل نتيجة لتبدلات داخلية وخارجية جعلت كلفة عرقلة العدالة أعلى من كلفة المضي بها.

إذ أن حزب الله، الذي اتُّهم مرارًا بتعطيل مسار التحقيق، يعيش اليوم لحظة سياسية حرجة، إثر التراجع الشعبي في الداخل، والضغوط الإقليمية والدولية المتزايدة.

وكان الحزب وحليفته حركة أمل قد اتهما البيطار منذ البداية بتسييس التحقيق، لا سيما بعد إصداره مذكرات توقيف بحق شخصيات محسوبة عليهما، منها وزير المال السابق علي حسن خليل.

كما وصلت حملة التشكيك إلى حد تحذير حسن نصر الله من "كارثة وطنية" إذا استمر القاضي بمساره، ما اعتُبر تهديدًا مبطنًا.

*لا استثناءات*

لكن هذه اللغة تغيّرت مؤخرًا، فوزير العدل اللبناني تحدث عن "مراحل متقدمة" في التحقيق، فيما شدد رئيس الحكومة نواف سلام على أنه "لا أحد فوق القانون"، داعيًا إلى كف يد السياسيين عن القضاء.

من جهته، أعاد الرئيس اللبناني جوزيف عون التأكيد أن العدالة "آتية لا محالة"، وأن لا استثناءات في ملاحقة المسؤولين، مهما كانت مواقعهم.

التبدّل الملحوظ في الموقف الرسمي يتزامن مع رسائل واضحة من المجتمع الدولي، فقد نكّست السفارات الأجنبية أعلامها وأصدرت بيانات تدعو لتحقيق العدالة، أبرزها السفارة الأميركية التي شددت على ضرورة بناء نظام قضائي مستقل "لا يحمي النخب السياسية"، بينما وصفت السفارة الفرنسية كشف الحقيقة بأنه "شرط لنهوض لبنان"، مؤكدة أن "من دون عدالة، لا قيام لدولة القانون".

*اختبار مصيري*


هذا الإجماع الدولي يترافق مع ضغوط شعبية مستمرة، إذ ما يزال أهالي الضحايا يطالبون بجواب بسيط: من جلب نترات الأمونيوم، ومن تجاهل التحذيرات، وكيف تُركت هذه القنبلة الموقوتة وسط العاصمة دون أي إجراء وقائي؟ فبحسب التحقيقات، كانت السلطات على علم بالمادة المخزنة، لكنها لم تتخذ أي خطوات لحماية الناس.

القضية لا تتعلق فقط بمحاسبة أفراد، بل بتعرية منظومة الإهمال والفساد واللامسؤولية التي تحكمت بمفاصل الدولة.

فالمرفأ لم ينفجر صدفة، بل نتيجة تواطؤ الصمت والإفلات من العقاب. واليوم، تبدو المحاكمة المنتظرة بمثابة اختبار مصيري للقضاء اللبناني، فإما أن يثبت استقلاليته، أو ينهار تحت وطأة تدخلات السياسة من جديد.

*مرآة لمصداقية الدولة*


من جانبه، يقول فادي عاكوم المحلل السياسي اللبناني: إن الانفراج النسبي في ملف انفجار المرفأ يعود إلى تراجع قدرة حزب الله على ضبط المشهد القضائي كما كان في السنوات السابقة. 

وأوضح في حديثه لـ"العرب مباشر"، أن التغييرات الجيوسياسية، لا سيما الحصار الدولي المتصاعد على الحزب، ساهمت في فتح هامش أوسع أمام القضاء لمتابعة الملف. 

ويضيف عاكوم، القاضي البيطار بات أقرب من أي وقت مضى لإحالة الملف إلى الاتهام، لكن ما يخشاه اللبنانيون ليس انتهاء التحقيق، بل ما سيأتي بعده: هل ستُنفذ مذكرات التوقيف، وهل سيُسمح للقضاء بالمضي دون تدخلات سياسية؟

ويشير عاكوم، أن الدولة اللبنانية أمام امتحان مصيري، إما أن تؤكد أنها قادرة على محاسبة كبار المسؤولين، أو أن تؤكد مجددًا عجزها البنيوي.

ويختم بالقول: العدالة في ملف المرفأ باتت مرآة لمصداقية الدولة، وأي تراجع الآن سيُنظر إليه كإفلاس أخلاقي وقانوني، لن تنفع معه بيانات التضامن الدولية ولا خطابات الندم الرئاسية.