الفاشر.. تصعيد مستمر ومخاوف من كارثة إنسانية

الفاشر.. تصعيد مستمر ومخاوف من كارثة إنسانية

الفاشر.. تصعيد مستمر ومخاوف من كارثة إنسانية
الفاشر

لم تكن سيطرة قوات "تأسيس" على مدينة الفاشر مجرد انتصار عسكري في حرب مستعرة منذ أكثر من عام ونصف، بل لحظة مفصلية تُعيد رسم خريطة القوة في غرب السودان وتفتح الباب أمام فصول جديدة من المأساة الإنسانية والسياسية، ففي الوقت الذي أعلنت فيه قوات التحالف سيطرتها الكاملة على عاصمة شمال دارفور، آخر معاقل الجيش السوداني في الإقليم، حذّر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش مما وصفه بـ"تصعيد مروّع للنزاع"، داعيًا إلى وقف فوري للقتال وتخفيف معاناة المدنيين المحاصرين بين النيران، وبينما تتبادل الأطراف الاتهامات بارتكاب الانتهاكات، يواجه السودان خطر انزلاق جديد نحو التفكك الكامل، حيث تتحول المدن إلى ساحات للثأر، ويضيع صوت الدولة بين تعدد المليشيات وتناحر الولاءات.

تحول في ميزان القوى

في مشهد يعيد إلى الأذهان فوضى الحروب الأهلية التي عصفت بدارفور في العقدين الماضيين، أعلنت قوات "تأسيس" -التكتل العسكري والسياسي الذي تشكل من اندماج قوات الدعم السريع مع فصائل أخرى- سيطرتها الكاملة على مدينة الفاشر بعد حصار دام أكثر من عام، المدينة التي صمدت لأشهر طويلة تحت القصف والجوع والانقسام، باتت اليوم عنوانًا لتحول جذري في ميزان القوة داخل السودان.

وقال غوتيريش -خلال زيارة إلى ماليزيا-: إن ما يجري في السودان "يفوق حدود الاحتمال الإنساني"، مشددًا على أن المجتمع الدولي "لا يمكنه الوقوف مكتوف الأيدي أمام المأساة".

وأكد، أن الأمم المتحدة تتابع بقلق بالغ التقارير الواردة من دارفور حول الانتهاكات ضد المدنيين، داعيًا إلى حماية السكان وإيصال المساعدات الإنسانية دون عوائق.

طمأنة المجتمع الدولي

وفي المقابل، سعى تحالف "تأسيس" إلى طمأنة المجتمع الدولي، إذ أصدر بيانًا، الثلاثاء، نفى فيه صحة الفيديوهات المتداولة التي تُظهر، وفق ناشطين، انتهاكات بحق المدنيين في الفاشر ومناطق أخرى.

وجاء في البيان: "نرفض بشكل قاطع أي تجاوزات ضد المدنيين، ونعمل على تشكيل لجان للتحقيق في جميع الادعاءات المتداولة".

لكن البيان لم يخلُ من لغة هجومية حادة ضد خصومه السياسيين، حيث اتهم "تأسيس" ما وصفه بـ"إعلام الحركة الإسلامية والمرتزقة" بفبركة مقاطع مصوّرة لتشويه صورته.

 وأضاف التحالف: أن قواته قامت "بإجلاء ما يقارب 800 ألف مدني من مناطق القتال إلى مناطق آمنة"، معتبرًا أن "من غير المنطقي اتهام من أنقذ المدنيين بأنه يرتكب ضدهم انتهاكات".

ويرى مراقبون، أن ما حدث في الفاشر ليس مجرد معركة عسكرية بل جزء من حرب أوسع لتثبيت شرعية جديدة في السودان، بين جيش تقليدي فقد السيطرة على الأرض، وتحالف مسلح يسعى لفرض واقع سياسي بديل بالقوة.

وبينما يحاول كل طرف الادعاء بأنه يقاتل من أجل "كرامة السودانيين"، يدفع المدنيون الثمن الباهظ للانقسامات والنزاعات الممتدة.

مدينة الدم والنزوح

تاريخيًا، كانت الفاشر قلب دارفور النابض ومركزًا للتجارة والتعايش القبلي، لكن الحروب المتتالية منذ عام 2003 حولتها إلى مدينة مثقلة بذكريات الدم والنزوح، سقوطها اليوم يعني عمليًا نهاية نفوذ الجيش في غرب البلاد، ويضع السودان أمام خريطة جديدة من السيطرة العسكرية المتعددة، ما يعقّد أي مسار محتمل للحل السياسي.

أما الأمم المتحدة، فتبدو عاجزة عن إيقاف التدهور، في ظل غياب إرادة دولية موحدة، وصراع مصالح بين القوى الإقليمية الداعمة للأطراف السودانية المتحاربة.

فبينما يصرّ غوتيريش على أن "السلام في السودان لن يأتي إلا عبر الحوار الشامل"، يواصل المتقاتلون تصعيدهم الميداني في سباق محموم نحو السيطرة على الموارد والمواقع الاستراتيجية.

وتشير مصادر محلية إلى أن الأوضاع الإنسانية في الفاشر متدهورة بشكل كارثي، إذ تعاني المدينة من نقص حاد في الغذاء والمياه والدواء، فيما تعجز المنظمات الإنسانية عن الوصول إلى معظم المناطق بسبب استمرار المعارك وغياب التنسيق الأمني.

وفي ختام بيانه، شدد تحالف "تأسيس" على أنه "سيواصل طريقه لتحرير السودان من الإرهاب الإخواني"، بحسب تعبيره، لكنه أكد أيضًا أن يده "ممدودة للسلام بشرط أن يحفظ وحدة البلاد وكرامة شعبها".

غير أن هذا الخطاب المزدوج، الذي يجمع بين لغة الحرب ولغة المصالحة، يعكس مأزق السودان الحالي، دولة تبحث عن خلاص وسط غابة من البنادق، وشعب يترقب بصيص أمل في نهاية نفقٍ لا يبدو له مخرج قريب.

يقول المحلل السياسي السوداني حاتم إلياس: إن ما حدث في الفاشر يمثل نقطة تحول حاسمة في الصراع، إذ لم يعد الحديث عن "معارك متفرقة"، بل عن تغيير شامل في موازين القوة.

ويضيف إلياس في حديثه لـ"العرب مباشر"، أن تحالف "تأسيس" يسعى لترسيخ شرعيته كقوة أمر واقع، مستفيدًا من الانقسامات داخل الجيش ومن الدعم القبلي في دارفور.

ويرى إلياس، أن الخطر الأكبر يكمن في غياب مشروع وطني جامع، إذ تتحول الحرب تدريجيًا إلى صراع هويات ومصالح، بينما تتآكل مؤسسات الدولة المركزية، ويشير إلى أن المجتمع الدولي يقف عاجزًا عن فرض تسوية، رغم التحذيرات المتكررة من الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي.

ويختتم قائلاً: "إن مستقبل السودان بات مرتبطًا بقدرة القوى السياسية والعسكرية على إدراك أن لا منتصر في هذه الحرب، وأن كل انتصار عسكري يزرع بذور صراع جديد، ما لم يُفتح مسار حقيقي لبناء دولة مدنية تستوعب الجميع".