من هو جيفري إبستين؟ رجل الظل الذي هزّ عروش السياسة والمال

من هو جيفري إبستين؟ رجل الظل الذي هزّ عروش السياسة والمال

من هو جيفري إبستين؟ رجل الظل الذي هزّ عروش السياسة والمال
جيفري إبستين

منذ وفاته داخل زنزانة في نيويورك عام 2019، لم تخرج قضية جيفري إبستين من دائرة الضوء، بل ازداد بريقها كلما تكشفت وثيقة جديدة أو ظهرت مراسلة قديمة تحمل اسمه أو أسماء المرتبطين به، فرغم أن الرجل لم يعد حيًا ليواجه ما اتُّهم به، فإن إرثه القانوني والاجتماعي ظل يتضخم ككرة ثلج تزداد غموضًا ووزنًا، وتجرّ خلفها شخصيات من الصف الأول في السياسة والمال والترفيه.

 قصة إبستين ليست مجرد واقعة استغلال قاصرات ولا شبكة اتجار بالبشر، بل هي نافذة على بنية نفوذ تمتد بين القصور الملكية، والطائرات الخاصة، والمجتمعات المخملية على جانبي الأطلسي، كما أنّها مرآة لواحد من أكثر الملفات حساسية في الولايات المتحدة، كيف يمكن لرجل واحد، بلا مؤهلات جامعية ولا تاريخ سياسي، أن يبني شبكة علاقات تُرجّ عروشًا وتربك قادة دول؟

من بروكلين إلى نادي الأثرياء.. من هو إبستين؟


وُلد جيفري إبستين عام 1953 في بروكلين، في منزل متواضع بعيد تمامًا عن عالم الثراء الذي سيصبح لاحقًا عنوان حياته، ترك الجامعة مبكرًا، لكنه امتلك مهارة لافتة في الرياضيات فتقدّم للعمل مدرسًا في مدرسة "دالتون" الراقية في نيويورك، لم يكن المكان مجرد وظيفة، بل بوابة نحو عالم النفوذ، فالمدرسة التي يرتادها أبناء الصفوة أتاحت له التعرف على رجال مصالح ومال سيغيرون مسار حياته.

من هناك انتقل إلى مؤسسة "بير ستيرنز"، حيث تحول بسرعة إلى مستشار مالي لأثرياء كبار، على رأسهم ليزلي فيكسنر، مالك "فيكتوريا سيكريت"، والذي كوّن مع إبستين علاقة عمل وثيقة، في عام 1982 أسس شركته الخاصة لإدارة الثروات، واشترط ألّا يقل حجم أموال العميل عن مليار دولار. 

هذا الشرط وحده كان كفيلًا بأن يضعه في قلب نخبة مالية لا يدخلها سوى القليلين.

امتلك إبستين عقارات فاخرة، بما فيها واحد من أكبر منازل مانهاتن، ومنتجع في فلوريدا، ومزرعة في نيو مكسيكو، وجزيرة خاصة في الكاريبي، وشقة في باريس. 

وبفضل غيلين ماكسويل، ابنة روبرت ماكسويل، توسعت شبكة علاقاته لتشمل مشاهير مثل كيفن سبيسي وودي آلن، إضافة إلى ترامب وبيل كلينتون.

الانهيار.. بداية الشبهات

عام 2005 قدّمت عائلة فتاة تبلغ 14 عامًا بلاغًا تتهم فيه رجلًا ثريًا في بالم بيتش بالاعتداء عليها، خلال التحقيقات، تطابقت شهادات عشرات الفتيات اللاتي روين قصصًا متشابهة عن "جلسات تدليك" تنتهي باعتداءات جنسية مقابل مبالغ صغيرة، وكشفت الشرطة شبكة كانت تعتمد على استقطاب قاصرات عبر فتيات أخريات، في نمط استغلال متسلسل.

برغم حجم الشبهات، نجح فريق دفاع إبستين وهو أحد أقوى فرق المحاماة في الولايات المتحدة في عقد تسوية مثيرة للجدل عام 2008، تضمنت التسوية اعترافًا بتهم أقل وطأة، مقابل عقوبة مخففة وسرية تامة، ومنع ملاحقة أي شخص ورد اسمه في الملف. لم يُبلغ الضحايا بالتسوية، وأمضى إبستين 13 شهرًا فقط في سجن مفتوح يسمح له بالخروج 12 ساعة يوميًا.

العودة إلى الواجهة ومحاولة إنقاذ السمعة


بعد إطلاق سراحه، ظل يعيش برفاهية، واحتفظ بطائراته الخاصة، إحداها بوينغ 727، حاول تحسين صورته بتبرعات لجامعات مثل هارفارد، لكن الشبهات بقيت ملازمة له، وفي مقابلات إعلامية، حاول التقليل من فداحة أفعاله، واصفًا نفسه بأنه مذنب فقط، لا وحش، وهو تصريح أثار موجة استهجان جديدة.

في يوليو 2019، أعيد فتح الملف هذه المرة بتهمة الاتجار بالبشر لأغراض جنسية. داهم الـFBI منزله في مانهاتن وصادر مواد وصورًا اعتُبرت أدلة حاسمة، وبعد شهر واحد، عُثر عليه ميتًا داخل زنزانته، خلص التحقيق الرسمي إلى الانتحار، لكن الشكوك لم تهدأ، خصوصًا مع غياب تسجيلات كاميرات السجن تلك الليلة.

كان الأمير أندرو ماونتباتن ويندسور من أكثر المتضررين بعد سقوط إبستين، إذ تعود علاقتهما إلى التسعينيات، ومع بدء التحقيقات، برزت شهادة فيرجينيا جيوفري التي اتهمته بممارسة الجنس معها عندما كانت قاصرًا، واعتبرت المقابلة التي ظهر فيها عبر "بي بي سي" للدفاع عن نفسه نقطة انهيار في مسيرته العامة، بعدما بدت إجاباته متناقضة وغير مقنعة، وانتهت بانسحابه من واجباته الرسمية وتراجع مكانته أمام الرأي العام.

التسوية التي عقدها أندرو مع جيوفري عام 2022 لم تنه الجدل. ومع نشر رسائل بريد إلكتروني عثر عليها ضمن ملفات إبستين خلال عامي 2024 و2025، ظهرت تفاصيل جديدة زادت الضغط على القصر الملكي في بريطانيا. 

بعض هذه الرسائل أظهر استمرار التواصل بينه وبين إبستين بعد الفترة التي قال فيها إنه أنهى علاقته به، فيما كشفت رسائل أخرى ترتيبات للقاءات لم يعلن عنها، ما أدى إلى موجة انتقادات جديدة داخل بريطانيا.

ومع مطلع عام 2025، اتخذ الملك تشارلز الثالث إجراءات أكثر صرامة، شملت تجريد شقيقه من لقب دوق يورك، وحرمانه من أوسمة ملكية رفيعة، وبدء عملية لإبعاده عن مقر إقامته الرسمي.

 وفي 3 نوفمبر الجاري، صدر مرسوم ملكي رسمي سحب بموجبه حقّه في استخدام لقب "أمير" وأسلوب المخاطبة "صاحب السمو الملكي".

حلقة ترامب الغامضة


ظلّ دونالد ترامب جزءًا من المشهد المرتبط بجيفري إبستين منذ مطلع الألفية، إذ تحدث عنه في مقابلة عام 2002 قائلاً: إنه يعرفه منذ سنوات طويلة، واصفًا إياه بأنه "شخص ممتع" يتمتع بحياة اجتماعية صاخبة، قبل أن يضيف—بطريقة عفوية آنذاك—أن إبستين يميل إلى الانجذاب للنساء صغيرات السن.

وعاد اسم ترامب ليُطرح مجددًا بعد الكشف عن سلسلة جديدة من رسائل إبستين الإلكترونية التي أفرج عنها ضمن مراجعة أوسع لقضية الاتجار بالبشر، إذ نقلت بعض الرسائل ادعاءات بأن إبستين أبلغه بوجود “فتيات” وطُلب من غيسلين ماكسويل وقف الأمر، بينما أشارت رسالة أخرى إلى أن إحدى الضحايا أمضت ساعات طويلة برفقة ترامب في منزل إبستين عام 2011.

ترامب من جهته نفى قطعًا أي علاقة له بهذه الانتهاكات، معتبرًا ما ورد في الرسائل جزءًا من حملة سياسية موجهة ضده، مؤكّدًا أن صلته بإبستين كانت سطحية وأنه رفض زيارة الجزيرة الخاصة التي كان يمتلكها.

وفي السياق ذاته، تصاعد الجدل من جديد بعد أن نشرت فيرجينيا جيوفري مذكراتها التي تضمّنت روايات جديدة حول ما تقول إنها عاشته داخل منازل إبستين وعلى متن طائرته الخاصة، ثم جاء انتحارها المفاجئ عام 2025 ليضيف طبقة جديدة من الغموض إلى الملف، ويعيد إشعال الأسئلة التي لم تُجب بعد.