من فيينا إلى نيويورك.. كيف انهار الاتفاق النووي وعادت الضغوط على طهران؟
من فيينا إلى نيويورك.. كيف انهار الاتفاق النووي وعادت الضغوط على طهران؟

بعد عقد من رفع العقوبات الدولية، تجد إيران نفسها مجددًا أمام قبضة الأمم المتحدة وهي تُفعّل آلية "سناب باك" لإعادة فرض إجراءات قاسية تطال اقتصادها وبرنامجها النووي.
الخطوة التي قادتها الترويكا الأوروبية، بدعم من واشنطن، جاءت لتغلق باب التمديد أمام موسكو وبكين، وتفتح في المقابل صفحة جديدة من المواجهة مع طهران، التي ترى في الأمر "ابتزازًا غربيًا" يستهدف كبح طموحاتها النووية والسياسية.
وبينما تعلن فرنسا وبريطانيا وألمانيا تمسكها بالمسار الدبلوماسي المشروط، وتحذر طهران من "أي تصعيد"، تصر الأخيرة على رفض تسليم مخزونها من اليورانيوم المخصب، ملوّحة بأن العودة إلى الاتفاق القديم لم تعد خيارًا واقعيًا.
ومع تدهور العملة الإيرانية وارتفاع أسعار الذهب، يزداد القلق الداخلي من تبعات اقتصادية واجتماعية أشد قسوة، في وقت تتصاعد فيه المخاوف من انزلاق المنطقة نحو مواجهة أوسع، تتجاوز حدود الملف النووي إلى صراع إقليمي متشابك الأطراف.
من الاتفاق إلى الانهيار
دخلت العقوبات الأممية على إيران حيّز التنفيذ مجددًا مساء السبت، بعد عشر سنوات من تعليقها بموجب الاتفاق النووي لعام 2015، الخطوة التي تَمثّلت في تفعيل "آلية سناب باك" لم تكن مجرد إجراء إجرائي، بل تعكس تحوّلًا استراتيجيًا في مقاربة الغرب لملف طهران النووي، بعدما فشلت جولات التفاوض الأخيرة وازداد المخزون الإيراني من اليورانيوم المخصب إلى مستويات غير مسبوقة.
حين وقّعت خطة العمل الشاملة المشتركة في فيينا عام 2015، كان الهدف واضحًا، رفع العقوبات الدولية مقابل تقييد برنامج إيران النووي، مع سقف تخصيب لا يتجاوز 3.67%.
غير أن انسحاب الولايات المتحدة عام 2018، في عهد السابق للرئيس دونالد ترامب، قلب المعادلة، ودفع طهران تدريجيًا إلى التحرر من التزاماتها، واليوم، بحسب الوكالة الدولية للطاقة الذرية، تمتلك إيران نحو 440 كيلوغرامًا من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%، وهو مستوى يضعها على عتبة القدرة التقنية لإنتاج سلاح نووي، وإن كانت تؤكد أن نواياها "سلمية".
المواجهة الدبلوماسية.. موسكو وبكين ضد الغرب
إعادة فرض العقوبات جاءت بعد فشل مشروع روسي–صيني في مجلس الأمن لتمديد المهلة الممنوحة لطهران، موسكو وصفت القرار بأنه "تخريب غربي متعمّد"، فيما اتهمت بكين أوروبا وواشنطن بعرقلة أي فرصة للحل البنّاء.
لكن الترويكا الأوروبية دافعت عن موقفها، معتبرة أن طهران لم تُبدِ جدية في التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية أو في العودة إلى طاولة المفاوضات، وزير الخارجية الألماني شدد على أن "الباب ما زال مفتوحًا للدبلوماسية"، لكن بشروط ثلاثة، وهي عودة المفتشين الأمميين إلى كل المواقع، استئناف المفاوضات المباشرة مع واشنطن، ووضع ضمانات لمستقبل مخزون اليورانيوم.
العلاقة بين واشنطن وطهران تبدو أشد تعقيدًا، فبعد محاولات أولية لاستئناف المفاوضات مطلع هذا العام، انسحبت إيران احتجاجًا على الهجوم الإسرائيلي الواسع في يونيو، والذي استهدف منشآت نووية بدعم استخباراتي أميركي.
الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان كشف أن واشنطن طلبت من طهران تسليم كامل مخزونها المخصب مقابل إعفاء مؤقت من العقوبات، وهو ما اعتبره "عرضًا غير مقبول"، مؤكدًا أن الضغوط لن تُجبر بلاده على التخلي عن مكتسباتها النووية.
أعباء اقتصادية متزايدة
انعكاس العقوبات على الداخل الإيراني كان سريعًا، الريال سجل انهيارًا جديدًا ليصل إلى 1.12 مليون مقابل الدولار، فيما تزايد الإقبال على شراء الذهب في أسواق طهران وسط مخاوف من موجة تضخم جديدة.
مواطنون تحدّثوا عن خشية من "حرب قادمة"، بينما يرى خبراء أن الأزمة الاقتصادية ستتفاقم مع تراجع عائدات النفط وإغلاق قنوات التبادل التجاري، ورغم إعلان طهران قدرتها على "الصمود"، تبدو الضغوط الاجتماعية مرشحة للتصاعد، خصوصًا مع تراجع الثقة الشعبية في قدرة الحكومة على إدارة الملف النووي بما يحفظ الاستقرار الاقتصادي.
إعادة فرض العقوبات لا تُقرأ فقط في سياق الصراع الغربي– الإيراني، بل أيضًا في معادلة أوسع تشمل أمن المنطقة، فإسرائيل تراقب الوضع عن كثب، وتواصل التحذير من اقتراب إيران من "الخط الأحمر النووي".
ودول الخليج تخشى من أن يؤدي التصعيد إلى اضطراب إمدادات الطاقة العالمية، بينما تراهن بعض الأطراف الإقليمية على أن الضغوط قد تدفع طهران إلى مرونة تفاوضية لاحقة، لكن في المقابل، يرى محللون أن تشدد الغرب قد يفتح الباب أمام تقارب أكبر بين إيران وروسيا والصين، في إطار محور مضاد للعقوبات والعزلة الغربية.
نفاد الصبر الاستراتيجي
من جانبه، يرى د. محمد محسن، خبير الشؤون الإيرانية، أن إعادة فرض العقوبات على إيران تمثل "لحظة مفصلية" في مستقبل التوازنات الإقليمية والدولية، ويقول: "هذا القرار لا يقتصر على كونه عقوبة تقنية تتعلق بالبرنامج النووي، بل هو رسالة سياسية من الغرب مفادها أن الصبر الاستراتيجي قد نفد".
وأضاف محسن، في حديثه لـ"العرب مباشر": أن انعكاس ذلك سيكون مزدوجًا، أولاً، سيضغط بقوة على الاقتصاد الإيراني، ما قد يؤدي إلى اضطرابات اجتماعية داخلية وتراجع قدرة طهران على تمويل أذرعها الإقليمية، وثانياً، سيدفع إيران إلى البحث عن بدائل استراتيجية، عبر تعزيز تحالفاتها مع موسكو وبكين وربما تعميق تعاونها العسكري معهما".
وأشار محسن إلى أن احتمال العودة إلى المفاوضات ما يزال قائمًا، لكن بشروط أكثر صرامة، موضحًا أن "واشنطن وحلفاءها لن يقبلوا بعد الآن بمجرد العودة إلى اتفاق 2015 كما هو، بل سيطالبون بتفاهم أوسع يشمل برنامج الصواريخ الباليستية ودور إيران الإقليمي".
ويختتم بالقول: إن الأشهر المقبلة ستكون حاسمة، "إما أن نشهد انفراجة دبلوماسية جديدة، أو أننا أمام مرحلة تصعيد أوسع قد تعيد المنطقة إلى أجواء ما قبل الاتفاق النووي".