رفض الدوران في فلك إيران
تماطل إيران في التفاوض بشأن البرنامج النووي فيما يرفض المجتمع الدولي والمنطقة الدوران في فلك طهران
لا يعرف أحد على وجه اليقين ماذا سوف تسفر عنه المفاوضات بين الأفرقاء في فيينا، إيران من جهة ودول متعددة منها الولايات المتحدة من جهة أخرى، إلا أن الأخيرة هي المعنية من وجهة نظر طهران وبقية العواصم المشاركة، إنها هي التي سوف تقرر على أي وجه سوف تنتهي تلك المفاوضات، إما برفع بعض أو كل العقوبات المفروضة على طهران، أو العودة إلى صراع جديد لا أحد يعرف أو يتوقع أين سوف يصل.
في أي قضية عادة يكون هناك احتمالان (صح أو خطأ) أو (أبيض وأسود)، في الملف الإيراني يبدو أن الألوان متعددة، فقد حاولت إدارة باراك أوباما استرضاء النظام الإيراني متخطية كل الاعتراضات، حتى من الداخل الأوروبي الأقرب إلى الشرق الأوسط والأكثر فهماً للمشكلات الحاصلة، وذهبت إلى اتفاق على أمل أن يقنع السلطة الإيرانية بالدخول في علاقات طبيعية مع العالم.
فشل ذلك التوجه، وجاءت إدارة دونالد ترامب فغلظت العقوبات، فزاد من تعنت إيران وأصبحت لها ذريعة في الدفع بثلاثة أسلحة دفعة واحدة، العودة إلى التخصيب، تسريع برنامج الصواريخ الباليستية، والتوسع في الخاصرة العربية، نحن الآن أمام المرحلة الضبابية الثالثة والغامضة، ومدخلاتها كثيرة في الجانب الأميركي والجانب الإيراني، والتي قد تقود بشكل ما إذا ما أخطأت الحسابات إلى إشعال الشرق الأوسط بكامله.
هناك شيء ما يمكن أن يوصف «بإرادة عدم الفهم» في الجانب الأميركي، على الرغم من أن التعبير يبدو متناقضاً، فإن التدليل عليه قد يوضحه، فقد قال في وقت ما رئيس المجموعة المفاوضة إبان عهد أوباما، السيد جون كيري وزير الخارجية، إنه يثق «بفتوى السيد على خامنئي بتحريم السلاح النووي»، وعلى الرغم من وجود عقول يمكن أن توصف بالرجاحة في المؤسسات السياسية الأميركية، فإن هذا التصريح يدل على «إرادة عدم الفهم» المسبق؛ فتاريخ الفتوى كما يعلم أي متابع هو تاريخ متغير، أي فتوى تنقضها فتوى إذا اقتضت الضرورة.
على أن ملخص هذا التأرجح، يبدو أن النظام الإيراني استساغ «ابتزاز العالم» والإصرار على أن تبحر سفنه على اليابسة، فيعود من جديد إلى التخصيب الاستفزازي، ويدفع بأذرعته في الخاصرة العربية بتنمر مسلح مفزع ومدمر، فتتدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في لبنان باتجاه القبض من قبل ذراعه على الدولة والبلد، ويحاصر المحاولات العراقية للتخلص من نفوذه، ويدفع بتابعيه في اليمن إلى أن تصبح تلك البلاد فوضى مفتوحة على الفقر والمرض والشتات، ويساند بالسلاح نظاماً قمعياً في سوريا خلّف ملايين المهاجرين والقتلى.
طبعاً مع تجاوز ما يحدث في الداخل الإيراني الذي أصبح معروفاً من تدهور اقتصادي وقمع سياسي غير مسبوق في تاريخ البلد. هل «إرادة عدم الفهم» أيضاً موجودة في طهران، أي عدم فهم أن كل تلك الخطوات الاستفزازية قد تقود في وقت ما إلى إشعال صراع لا يعرف ولا يستطيع أحد أن يتكهن بنتائجه، والتي بالتأكيد ستكون مدمرة؟... في الأسبوع الماضي نظمت صحيفة «البلاد» لقاءً عن بعد استضافت فيه الأمير تركي الفيصل، كمتحدث رئيسي، وعدداً من الزملاء المهتمين بالموضوع.
يحمل الأمير مخزوناً من المعرفة والحكمة، وقد نُشر ذلك اللقاء على نطاق واسع، أريد فقط أن أشير إلى بعض نقاطه، الأفكار التي طرحت أعتقد أنها تمثل أفكار أغلبية المتابعين من العرب لهذا الملف، فقد قال بوضوح «نحن لا نكنّ عداءً للشعب الإيراني»، وأنا على يقين أن ذلك هو شعور كل عربي على الضفة المقابلة لإيران، وأن ما يتم في الداخل الإيراني هو شأن خاص بالشعب الإيراني، ثم أضاف «ولكن يلزم الحفاظ على أمننا، وهذا يحتم تحقيق توازن قوي معها». لأن «التصعيد في المنطقة يزاد كل يوم، بل كل ساعة، ما يُبقي أبواب المنطقة أمام مزيد من عدم الاستقرار والفوضى»، ثم أردف الأمير تركي بالقول «الخطر لا ينحصر في البرنامج النووي الإيراني فقط، بل الخطر في سلوكها المتنمر طيلة العقود الأربعة الماضية من حيث التدخل في الشؤون الداخلية في بلداننا».
وحذر بالقول «علينا الاستعداد لليوم الذي تمتلك فيه القيادة الإيرانية القوة النووية»، و«علينا أن نستعد لكل الاحتمالات». ذلك ملخص وقد يكون جرس إنذار عالي الصوت من شخص يعرف الكثير من الملفات التي تناقش على الساحة الشرق أوسطية.
لقد أضاف الأمير تركي قيمة معرفية ثمينة في تحليل الموقف وقراءة إستراتيجية للاحتمالات. قراءتي لما قيل، أن الاحتمال أن تحصل إيران على التقنية الحربية النووية قد لا يكون بعيداً، ومفارقاً لقراءة وقناعات السيد جون كيري وفهمه «للفتاوى»، كما أن التصعيد في كل الساحات التي تملك إيران فيها أذرعه نشيطة أو خاملة سيكون هو العنوان القادم، وقائماً على افتراض من السلطة في طهران أن ذلك يدفع الموقف الأميركي إلى الإسراع في رفع العقوبات، وتخلٍ عن المواجهة إلى الاستسلام للشروط الإيرانية.
المشهد معقد، هناك تضارب مصالح ومسارات سياسية متعرجة بين الفاعلين الرئيسيين، وربما عض أصابع متبادل من أجل الدفع بمصالح حتى بعيدة عن مسرح الشرق الأوسط، يواجه ذلك تعنتا وربما شعورا بقرب الانتصار «من وجهة النظر الإيرانية» نسمعها كل يوم من خلال أصوات المتحدثين على وسائل الإعلام العالمية من طهران.
لم يتوقف الأمير تركي عن إبداء رأي واضح فيما يجب أن نكون عليه، فقال «يجب أن نعمل بشكل حثيث لتفادي عوامل القصور ونتجاوز الاختلاف لنكون مؤهلين من أجل مواجهة كل الاحتمالات».
وفي تقديري أن أحد الاحتمالات الممكنة هو نشوب صراع مباشر، فالتاريخ يؤكد لنا في أكثر من حدث، أن الاسترضاء يقود حثيثاً إلى الفهم الخاطئ ويدفع من قُدمت له التنازلات إلى طلب الأكثر، ويساعد في الوصول إلى التسخين وجود مخزون من السلاح وأيديولوجيا توسعية، تلك معادلة لا تخطئ في الدفع بنشوب الصراع المسلح. الأمن القومي العربي مهدد من أكثر من جهة اليوم، والشعب العربي في كل مناطق الصراع هو الذي يدفع الثمن، وفي الوقت نفسه ترفض مجاميعه الأكبر والأكثر الرضوخ لاستعمار جديد أو الدوران في فلك النظام الإيراني أو فلك أي نظام آخر.
آخر الكلام:
وزير الخارجية الإيراني يقول «إيران لا تريد الحرب». لا أعرف كيف يفسر إرسال الأسلحة للحوثي وتخريب لبنان والعراق بميليشيات تابعة له، ماذا يسميه؟
نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط