«الإخوان» المهزومة... أوهام الفترة الذهبية
عاشت جماعة الإخوان هزيمة نكراء
في مقطع مصور لا يزيد على 15 ثانية ورد في مسلسل «الاختيار 2»، قال محمود عزت القائم بأعمال مرشد جماعة «الإخوان» في التحقيقات التي أجرتها النيابة العامة المصرية بعد اعتقاله في 28 أغسطس (آب) العام الماضي، وبعد فشل خبرة مواجهة الدولة بالسلاح، حسب قوله، رأى أن «حالة النجاح من وجهة نظري أن نرجع لحالة ما قبل الثورة». الاعتراف كما يقال هو سيد الأدلة، لكنه في هذه الحالة لا يقف عند حدث مضى وانتهى أمره، بل يكشف عن تفكير الجماعة أو من بقي من قياداتها في السنوات المقبلة، وهو تفكير له جانبان؛ يؤكد الهزيمة، ويبرز توهم العودة إلى حالة كانت فيها الجماعة في أفضل حالاتها من حيث الانتشار المجتمعي والنفوذ المعنوي.
حالة ما قبل الثورة، هي الفترة الزمنية التي عاشتها مصر لمدة عقدين تقريباً يمثلان ثلثي فترة حكم الرئيس مبارك، انتشر فيهما نفوذ الجماعة عبر العديد من الآليات المجتمعية والاقتصادية والإعلامية للدرجة التي وصل فيها هذا النفوذ إلى ترتيب المشاركة في الانتخابات البرلمانية 2001 و2005. والثانية حصدت فيها الجماعة 84 مقعداً، كان بعضها بترتيب مع الأجهزة المعنية بضبط الانتخابات، والبعض الآخر نتيجة اقتناص الفوز بفعل استقطاب الناخبين البسطاء بالشعارات الدينية وتوزيع الأموال والأغذية والملابس، لا سيما في المناطق الشعبية، حيث ترتفع نسبة البسطاء والمحتاجين.
طوال عقدين نجحت الجماعة تحت أعين الجميع، في الانتشار في كافة النقابات المهنية والحصول على نسبة محترمة في مقاعد مجالس الإدارة تجعل النقيب مشلولاً في تحركاته، ولا يستطيع اتخاذ أي قرار إلا بالتنسيق مع المجموعة الإخوانية التي كثيراً ما كانت تزيد على نصف عدد أعضاء المجلس، مما يعطيها قوة الاعتراض أو الإقرار وفقاً لحالة التنسيق مع النقيب.
عقدان كاملان أنشأت فيهما الجماعة عدداً هائلاً من الشركات الصغيرة والمتوسطة في قطاعات توزيع الأغذية والأدوية والأثاث والأجهزة الكهربائية والإلكترونيات والسياحة الداخلية والخارجية، قدرت رؤوس أموالها بأكثر من مائة مليار جنيه. كما تغلغلت في عدد من المساجد في كل المحافظات والمدن والريف وأسست المراكز الطبية المتوسطة والكبيرة، واستفادت من كم هائل من طلاب كليات الطب الذين تم استقطابهم فترة الدراسة وأصبحوا أعضاء ناشطين في الجماعة وفي مراكزها الطبية.
امتد الأمر إلى تأسيس عدد من مراكز البحوث في مجالات الاجتماع والاقتصاد والسياسة، وشارك فيها عدد كبير من الأساتذة والباحثين، لم يعلنوا هويتهم الإخوانية إلا بعد يناير (كانون الثاني) 2011، والذين هرب غالبيتهم إلى تركيا بعد القضاء على حكم «الإخوان» في يونيو (حزيران) 2013. وما زال بعضهم ينشر دراساته في مواقع إلكترونية لمراكز بحوث أنشئت بالدعم التركي، يعالجون فيها الأوضاع المصرية من المنظور الانتقامي الإخواني، وبعيداً عن أي ضوابط منهجية وعلمية. ولم تخلُ مؤسسة صحافية قومية أو خاصة من صحافيين وسكرتيري تحرير ومهندسي طباعة وعمال خدمات ينتمون للجماعة، بعضهم كان يبدي تعاطفه مع الجماعة بقدر من التلميح الخفيف كنوع من التقية، باعتبار أن الجماعة فصيل وطني يستحق المشاركة في الحكم ومؤسسات الدولة. ثم تحول التعاطف إلى إعلان صريح وفخر بالانتماء للجماعة بعد سقوط نظام مبارك، باعتبار أن المرحلة الجديدة هي مرحلة «الإخوان»، وقد حدث بالفعل أن عُين كثيرون منهم رؤساء تحرير ورؤساء مجالس إدارة لعدد من الصحف والمجلات التي تصدر عن المؤسسات القومية. أما الإعلام المرئي والمسموع، ومبانيه التي تتسع إلى أكثر من أربعين ألف عامل وموظف ومحرر، فحدث ولا حرج، إذ تبين أن تغلغل الجماعة في هذا المرفق المهم، فاق ما كان يُعتقد.
ولم يختلف الأمر في القطاع الرياضي وفي الأندية الكبرى، وكثير من اللاعبين الذين كُشف عنهم الغطاء، وتبين انتماؤهم للجماعة بياناً لا شك فيه، كانوا وراء استقطاب الشباب المهووسين بتشجيع فرقهم الكروية ليكونوا أعضاء في مجموعات «الألتراس» التي يتم تمويلها من قبل هؤلاء اللاعبين الكبار والمشهورين، وهي المجموعات الشبابية التي وظفت في التجمعات بالميادين وحول النوادي وأثناء اللقاءات الكروية، ورفعت شعارات سياسية لا علاقة لها بالمنافسة الرياضية، بهدف الإساءة إلى الشرطة والجيش وتكثيف المشاعر العدائية لهاتين المؤسستين، كبند من بنود خطة «الإخوان» لإسقاط الدولة بعد دفعها إلى الفوضى وتغييب الأمن.
في هذه الفترة أيضاً كان بعض رموز الجماعة زواراً وضيوفاً دائمين على كل السفارات الأجنبية وأبرزها السفارة الأميركية وسفارات دول أوروبية عديدة، جميعها كانت تضغط من أجل السماح بمزيد من حرية الحركة للجماعة. بل الأكثر من ذلك، أن قام بعض مسؤولي السياسة والإعلام في عدد من تلك السفارات بزيارة مقر الجماعة في أحد أحياء الجيزة تحت سمع وبصر الجميع، وقابلوا المرشد ورموز الجماعة وتناقشوا في كيفية الضغط على الرئيس مبارك من أجل دمج الجماعة في مؤسسات الدولة السيادية كالشرطة والخارجية. وهناك العديد من المراسلات الخاصة بالسفارة الأميركية في القاهرة التي كشف عنها موقع «ويكيلكس»، والتي ذكرت بعض تلك اللقاءات ومن شارك فيها، ولقاءات أخرى مع مجموعات من الصحافيين ورموز إعلامية أبدوا تعاطفهم وتأييدهم لفكرة دمج الجماعة سياسياً وفقاً للرؤية الأميركية.
بالفعل من حق القائم بأعمال المرشد بعد هزيمة الجماعة وسقوط حكمها بأمر الناس قبل أي شيء آخر، أن يحلم حلم يقظة، أو بالأحرى يتوهم العودة إلى تلك الفترة الذهبية لجماعته الإرهابية، حيث كانت تصول وتجول في أنحاء البلاد، في الوقت ذاته لا تخشى العقاب، ولا تتوقع من النظام الحاكم آنذاك أن يتصرف تصرفاً يغضب المؤيدين لها في الخارج، وثمة الكثير من الكتب الرصينة التي نشرت في الولايات المتحدة وعالجت تلك الفترة زمن الرئيسين كلينتون وأوباما. وهم اليقظة هذا للمسؤول الإخواني المهزوم فيه اعتراف صريح بزوال فرصة حكم مصر لمدة 500 عام كما ورد في وثائقهم التي دشنها نائب المرشد القوي خيرت الشاطر، والتي توعد فيها بفتح مصر، وكأنها بلد عاصٍ مُفرّط في دين الله وينتظر الهداية من الجماعة.
هذا الوهم العاصي على التطبيق يطرح تحدياً حقيقياً للمسعى التركي الهادف إلى تطبيع علاقاته مع مصر، ومتصوراً أن بقدرته إقناع القاهرة أن تفتح أبوابها مرة أخرى لكل الرموز والأعضاء «الإخوان»، الذين تصوروا الحماية لدى أنقرة وحكومتها.
القاهرة بدورها تدرك أن عودة هؤلاء، إن تمت الموافقة على عودة بعضهم أو كلهم، ليست من أجل استعادة الفترة الذهبية وتنشيط خلاياهم النائمة للتغلغل في ثنايا المجتمع وإفساد تعافيه من الأوهام الإخوانية، بل هي عودة للمحاسبة ودفع ثمن التمرد والخيانة والتحريض على العنف وإثارة البغضاء بين مكونات المجتمع والارتباط بمخابرات أجنبية عملت وما زالت ضد المصالح العليا للعباد والبلاد.
نقلا عن الشرق الأوسط