جرس إنذار قبل الدخول المدرسي.. إضرابات تهدد السنة الدراسية في تونس

جرس إنذار قبل الدخول المدرسي.. إضرابات تهدد السنة الدراسية في تونس

جرس إنذار قبل الدخول المدرسي.. إضرابات تهدد السنة الدراسية في تونس
تونس

على بعد أسابيع قليلة من دقّ جرس العام الدراسي الجديد في تونس، يتصاعد التوتر بين نقابات التعليم ووزارة التربية، في مشهد يعكس هشاشة العلاقة بين الطرفين وتراكم الأزمات القديمة دون حلول جذرية، فبينما ينتظر أكثر من مليوني تلميذ فتح أبواب المدارس يوم 15 سبتمبر، تحذّر النقابات من سنة "مهددة بالفشل"، في ظل ما تعتبره تعنتًا حكوميًا وغيابًا للحوار الجاد حول الملفات المهنية والاجتماعية العالقة.

 هذا الوضع المأزوم لا يقتصر على خلافات مادية أو مطالب ظرفية، بل يرتبط بمنظومة تعليمية مثقلة بالديون، ونقص في الموارد البشرية، وبنية تحتية مهترئة لم تعد قادرة على استيعاب أعداد التلاميذ المتزايدة، وبين تهديدات الإضراب وتلويح النقابات بالتصعيد، يقف أولياء الأمور في حيرة وقلق من ضياع سنة تعليمية جديدة، قد تضاف إلى سلسلة انتكاسات تشهدها المدرسة العمومية منذ سنوات.

أزمة جديدة


مع اقتراب موعد العودة المدرسية في 15 سبتمبر، تتكشف ملامح أزمة جديدة بين وزارة التربية ونقابات التعليم في تونس، لتعيد إلى الواجهة سؤالًا ظل يتكرر منذ سنوات، هل فقدت المدرسة العمومية قدرتها على ضمان الحد الأدنى من الاستقرار والفاعلية؟

النقابات، وفي مقدمتها جامعة التعليم الثانوي التابعة للاتحاد العام التونسي للشغل، رفعت صوتها عاليًا محذّرة من سنة "مرتبكة وصعبة"، بل و"مهددة بالفشل" في حال استمرار سياسة الصمت التي تتبناها الوزارة تجاه المطالب المطروحة، أبرز هذه المطالب تشمل تحسين الأجور التي تعتبرها النقابات غير متناسبة مع غلاء المعيشة، تقليص ساعات التدريس من 25 إلى 18 ساعة أسبوعيًا، وتفعيل اتفاقات سابقة تتعلق بإعادة تصنيف الأساتذة وصرف المستحقات المالية المتأخرة.

ورغم أن النقابات وجهت مراسلات عدة إلى الوزارة منذ بداية العام الجاري لإعادة فتح باب المفاوضات، إلا أن هذه الدعوات قوبلت ـ حسب تصريحات مسؤوليها ـ بـ"تجاهل تام"، ما اعتبرته النقابات استهتارًا بمصير مليونين وثلاثمئة ألف تلميذ، وتعمّق الخلاف أكثر بعد تنفيذ إضراب قطاعي يوم 26 فبراير الماضي، حيث اتهمت النقابات الوزارة بالانفراد بالقرارات المتعلقة بالعودة المدرسية.

أزمة هيكلية تتجاوز المطالب المهنية


في خلفية هذه الأزمة، يلوح مشهد أكثر تعقيدًا يتجاوز مجرد صراع بين موظفين ووزارة وصاية، فالمنظومة التعليمية في تونس تواجه تحديات بنيوية مزمنة، عجز في الموارد البشرية يُقدّر بمئات الإطارات التربوية والإدارية، ضعف في الميزانيات المرصودة، واهتراء في البنية التحتية لعدد كبير من المؤسسات، ما يجعل المدرسة العمومية أقل قدرة على أداء دورها التقليدي كقاطرة للتنمية الاجتماعية.

ووفق بيانات رسمية، بلغ عدد الأساتذة في المرحلتين الإعدادية والثانوية نحو 74 ألفًا، في حين يتجاوز عدد التلاميذ 2.3 مليون، بزيادة 1.5% مقارنة بالعام الماضي.

هذه الأرقام تكشف فجوة متنامية بين حجم الإقبال على التعليم والإمكانات المتاحة، وهو ما يفسر الاضطراب المتكرر مع كل عودة مدرسية.

أبعاد سياسية واقتصادية للأزمة


لا يمكن قراءة الأزمة التعليمية بمعزل عن السياق العام الذي تعيشه تونس منذ سنوات، حيث تواجه الدولة أزمة مالية خانقة، انعكست على قدرة الحكومة في تلبية تعهداتها تجاه موظفي القطاع العام.

فالنقابات تتهم وزارة التربية بالتنصل من اتفاقات موقعة منذ سنوات، لكن الوزارة ترد ضمنيًا بأن الوضع المالي الحالي لا يسمح بتنفيذ جميع الالتزامات.

في هذا السياق، يصبح التعليم مجالًا آخر للصراع بين السلطة المركزية والاتحاد العام التونسي للشغل، أحد أقوى مكونات المشهد النقابي في البلاد. فالإضرابات والاعتصامات باتت وسيلة ضغط متكررة، بينما يظل التلميذ الحلقة الأضعف.

أولياء الأمور بين القلق واليأس


على الأرض، يعيش أولياء التلاميذ حالة من الترقب والقلق، وسط خشية من أن يتكرر سيناريو السنوات الماضية حيث أُهدرت أسابيع من الدراسة بسبب الإضرابات. 

قول بعضهم إن مستقبل أبنائهم أصبح رهينة تجاذبات سياسية ونقابية، وإن "المدرسة العمومية لم تعد ملاذًا آمنًا كما كانت في السابق".

 وفي ظل محدودية القدرة المالية للعديد من الأسر، يبقى اللجوء إلى التعليم الخاص خيارًا مستحيلًا لكثيرين، ما يعمّق الفجوة الاجتماعية، ومع اقتراب موعد العودة المدرسية، تتكاثر الدعوات إلى تغليب الحوار وتقديم تنازلات متبادلة لتجنب سنة بيضاء أو مشوشة، لكن المؤشرات الحالية توحي بأن الأزمة مرشحة لمزيد من التصعيد، خاصة مع تلويح النقابات بوقفات احتجاجية وإضرابات متتالية، مقابل إصرار الوزارة على عدم فتح ملفات مالية جديدة دون غطاء من رئاسة الحكومة ووزارة المالية.

هشاشة البنية


من جانبه، يوضح كمال الحجام، الباحث في علم التربية، أن الأزمة الحالية لا يمكن اختزالها في خلاف حول أجور أو ساعات عمل، بل تعكس هشاشة البنية العميقة للمنظومة التعليمية التونسية وتداخلها مع الوضع السياسي والاقتصادي العام.

ويوضح الحجام، في حديثه لـ"العرب مباشر"، أن المدرسة العمومية "أصبحت ضحية مباشرة لغياب استراتيجية إصلاحية واضحة منذ عقد كامل"، حيث ظلت القرارات مرهونة بالحلول الترقيعية، دون معالجة جذرية لمشكلات التمويل وتطوير المناهج وتأهيل الكوادر.

ويشير الحجام إلى أن "ضعف الموارد المالية للدولة بعد سنوات من العجز والتداين جعل وزارة التربية في موقف المتفرج أكثر من الفاعل"، فهي عاجزة عن تنفيذ التزامات سابقة وقادرة فقط على إدارة الأزمات المتتالية. 

ويرى أن النقابات بدورها تتحرك تحت ضغط قواعدها، ما يجعلها تميل إلى التصعيد، وهو ما يغذي حلقة مفرغة من الشد والجذب، يدفع ثمنها التلميذ والأسرة التونسية.

ويخلص إلى أن مستقبل التعليم في تونس يتوقف على إرادة سياسية جادة تضع إصلاح التعليم ضمن أولويات الدولة، عبر مقاربة شاملة لا تنحصر في الأجور، بل تمتد إلى إعادة هيكلة المنظومة التعليمية بما يجعلها رافعة للتنمية لا عبئًا إضافيًا.