التخابر.. فزاعة الحوثيين الجديدة لتبرير القمع وإسكات اليمنيين

التخابر.. فزاعة الحوثيين الجديدة لتبرير القمع وإسكات اليمنيين

التخابر.. فزاعة الحوثيين الجديدة لتبرير القمع وإسكات اليمنيين
ميليشيا الحوثي

في اليمن، تتقاطع الحروب بالتحالفات والأيديولوجيات، ولم تعد البنادق وحدها وسيلة القمع، بل تحوّل القضاء نفسه إلى جبهة قتالٍ بيد الحوثيين، فالجماعة التي أحكمت قبضتها على صنعاء ومناطق واسعة من شمال البلاد، وجدت في تهمة "التخابر" ذريعة جاهزة لإسكات المعارضين، وتصفية الخصوم السياسيين، وترويع المجتمع المدني.

 خلال الأسابيع الماضية، تصاعدت وتيرة المحاكمات الصورية والاعتقالات التي طالت شخصيات فكرية وأكاديمية وموظفين أمميين بذريعة التعامل مع "جهات أجنبية"، في مشهدٍ يُعيد إلى الأذهان أجواء الرعب التي عاشتها الأنظمة الشمولية عبر التاريخ، هذه الحملة، التي تأتي عقب الضربة الإسرائيلية الموجعة التي أودت بعدد من قادة الجماعة، كشفت عن نزعة انتقامية متصاعدة وعن نظامٍ يستخدم لغة الخيانة كأداة لتثبيت سلطته المتهالكة، وتحويل البلاد إلى فضاءٍ مغلق تُدار فيه العدالة بمنطق العقيدة لا القانون.

سلاح سياسي


منذ مقتل كبار قادة الحوثيين في غارة إسرائيلية استهدفت صنعاء، تسارعت وتيرة القبضة الأمنية للجماعة التي تتخذ من طهران مرجعًا سياسيًا وعقائديًا، ففي وقت كانت فيه صدمة الخسائر تعصف بهيكلها القيادي، أطلقت الجماعة يد أجهزتها الأمنية في حملة اعتقالات جماعية طالت موظفين في منظمات دولية وناشطين ومفكرين، تحت لافتة واحدة: "التخابر مع العدو".

تحوّلت هذه التهمة -خلال الأشهر الأخيرة- إلى سلاح سياسي شامل يُستخدم لتبرير كل إجراء قمعي تقريبًا، فمن قاعات المحاكم إلى نشرات الأخبار التابعة للجماعة، تتكرر الرواية ذاتها، "خلايا تجسس" و"شبكات مرتبطة بالموساد" و"أدلة دامغة على الخيانة"، لكن خلف هذه اللغة العسكرية المفرطة في الحماسة، تخفي الجماعة نهجًا ممنهجًا لتكميم الأفواه وتصفية أي رأي مستقل داخل المجتمع اليمني.

اعترافات تحت التعذيب


في أحدث حلقات هذه الحملة، طالبت النيابة العامة في صنعاء بإعدام 21 يمنيًا بتهمة التجسس، في جلسة ثانية خلال ثلاثة أيام فقط، ما يعكس استسهال الجماعة إصدار أحكام الإعدام وتحويل القضاء إلى أداة انتقامية.

ووفق تقارير حقوقية، فإن المحاكمات تفتقر إلى أبسط معايير العدالة، إذ تُمنع هيئات الدفاع من الوصول إلى موكليها، ويُجبر المعتقلون على توقيع "اعترافات" تحت التعذيب، بينما تُبث هذه الاعترافات عبر وسائل الإعلام الحوثية في مشهد استعراضي لإرهاب المجتمع وتكريس الخوف.

ويشير باحثون يمنيون إلى أن الجماعة تعيد إنتاج نموذج الدولة البوليسية الكاملة، حيث يصبح القضاء والإعلام والأجهزة الأمنية أذرعًا متشابكة في مشروع السيطرة الأيديولوجية.

فـ"التخابر" هنا لا يعني التعاون مع جهة أجنبية بالمعنى القانوني، بل يعني ببساطة "الاختلاف مع الحوثيين" أو تبني خطاب لا يتوافق مع روايتهم العقائدية.

أرقام مفزعة


في هذا السياق، كشف تقرير حديث للشبكة اليمنية للحقوق والحريات، أن محافظة ذمار وحدها شهدت أكثر من 24 ألف انتهاك منذ عام 2015 حتى نوفمبر 2025، تشمل القتل والاختطاف والتعذيب ونهب الممتلكات وتجنيد الأطفال.

ووفق التقرير، أسّست الجماعة هناك 26 سجنًا سريًا وافتتحت 30 مقبرة جديدة تحمل أسماءً دينية رمزية مثل «روضات الشهداء» لتطبيع ثقافة الموت في الوعي الجمعي، الأخطر أن الجماعة جنّدت 4781 طفلًا، قُتل منهم أكثر من ألفي طفل في جبهات القتال، وهو رقم يعكس عمق الانهيار الإنساني الذي يعيشه اليمنيون في مناطق سيطرتها.

ذمار، التي كانت تُعرف يومًا بأنها "مدينة العلم والمثقفين"، تحوّلت إلى نموذج مصغّر ليمنٍ تُختصر فيه الحياة بين جدران الخوف والمقابر الجماعية، فالسلطة الحوثية لا ترى في المواطن شريكًا، بل "مشروع خصم" يجب مراقبته وتطويعه، أو تصفيته إن لزم الأمر.


جريمة فكرية مكتملة الأركان


وفي صنعاء، أخذ القمع منحى أكثر جرأة حين اعتقلت الجماعة البروفيسور حمود العودي، أحد أبرز المفكرين اليمنيين وأستاذ علم الاجتماع في جامعة صنعاء، مع رفيقيه عبد الرحمن العلفي وأنور خالد شعب.

كان ذنبهم الوحيد وسبب الاعتقال هو تنظيم ندوة فكرية من خلال مركز «دال» الذي رأسه العودي، تناولت قيم الديمقراطية والتعددية، إضافة إلى مقال كتبه العودي انتقد فيه الطائفية السياسية، وامتدح التجارب الديمقراطية في الغرب، وهو ما عدّه الحوثيون «تحريضًا» ضد مشروعهم العقائدي.

أثار الاعتقال استنكارًا واسعًا في الأوساط الفكرية والسياسية، واعتبرته منظمات حقوقية "جريمة فكرية مكتملة الأركان"، لكن الأهم أن الانتقادات طالت هذه المرة من داخل الصف الحوثي ذاته؛ إذ خرج قياديون مثل سلطان السامعي ومحمد المقالح للتنديد بما جرى، في مؤشر على تصدعات داخل البنية الصلبة للجماعة، التي باتت تضع أي رأي مخالف في خانة الخيانة.

شماعة التخابر

يقول الناشط السياسي، حسان الياسري، تحوّلت تهمة التخابر إلى نظام سياسي كامل، يُبنى على الوهم والولاء المطلق.

وأضاف في حديثه لـ"العرب مباشر"، كل من يشكك أو يناقش يصبح جاسوسًا، وكل من يصمت يُمنح صك النجاة المؤقت، إنها طريقة الحوثيين في خلق مجتمع مطواع يخاف من الكلام أكثر مما يخاف من الموت".

وتابع، تلك الاستراتيجية، رغم قسوتها، تكشف خوف الجماعة من الداخل أكثر من الخارج. فبعد عقدٍ من الحرب، تدرك قيادة الحوثيين أن أخطر أعدائها ليس "العدوان الخارجي" كما تزعم، بل الوعي اليمني المتراكم في الجامعات والمجتمع المدني ووسائل الإعلام، ذلك الوعي الذي تحاول خنقه كل يوم بشماعة "التخابر".