جوازات مزورة وقوارب محطمة.. تجارة الموت في سواحل اليمن
جوازات مزورة وقوارب محطمة.. تجارة الموت في سواحل اليمن

في عرض البحر، لا يُسمع سوى صوت الأمواج المتكسرة على حواف زورق مكتظ بأحلام مكسورة، تنزلق بهدوء نحو هاوية لا عودة منها، هذه ليست مجرد قصة أخرى عن الهجرة، بل عن طريق موتٍ بات معتادًا على ابتلاع الأرواح الوافدة من القرن الإفريقي إلى السواحل اليمنية.
مأساة جديدة تهز خليج عدن، حيث قضى العشرات غرقًا، في تكرار مألوف لمشهد لم يعد يثير الدهشة قدر ما يفضح عجز العالم، في المقابل، تتكشف خيوط شبكة إجرامية تنسج من مآسي اللاجئين وسيلة للربح، تنقلهم بوثائق مزورة من الشرق الأوسط إلى الغرب، عبر محطات يائسة، ما بين قوارب الموت وممرات التهريب، تنكشف فصول مرعبة من معاناة بشرية مستمرة، عنوانها: لا وطن، لا مأوى، ولا نجاة.
مسار محفوف بالموت
في واحدة من أسوأ الكوارث البحرية التي ضربت طريق الهجرة عبر خليج عدن هذا العام، لقي 76 مهاجرًا على الأقل حتفهم، وفُقد العشرات، بعد غرق زورق كان يقل أكثر من 150 شخصًا قبالة سواحل محافظة أبين جنوبي اليمن.
مأساة تتكرر بصيغ مختلفة، لكنها تحمل دائمًا نفس الملامح: قوارب مكتظة، محركات متهالكة، ومهاجرون تتقاطع في وجوههم ملامح الخوف والأمل واليأس.
بحسب المنظمة الدولية للهجرة: فإن هذا الطريق - المعروف بـ"المسار الشرقي للهجرة" يشهد سنويًا تدفق عشرات الآلاف من المهاجرين، أغلبهم من إثيوبيا والصومال، يحاولون العبور إلى دول الخليج عبر اليمن، في رحلة محفوفة بالمخاطر تبدأ من القرن الإفريقي.
وتوضح بيانات المنظمة، أن أكثر من 350 شخصًا لقوا حتفهم أو فُقدوا في هذا المسار منذ بداية عام 2024، مع ترجيحات بأن الرقم الحقيقي أعلى بكثير نظرًا لغياب الإبلاغ عن بعض الحوادث، وفقًا لوكالة "أسوشيتد برس".
تعتبر السواحل اليمنية - رغم الحرب والفقر - نقطة عبور مركزية في هذا المسار، كونها الأقرب جغرافيًا إلى القرن الإفريقي، لكنها أيضًا واحدة من أكثر النقاط خطورة بسبب تردي ظروف الأمن والاستقرار، وغياب الرقابة الصارمة على شبكات التهريب.
شبكات التهريب تلاحقهم في البر أيضًا
وبينما يموت البعض في البحر، يقع الآخرون ضحايا شبكات تهريب دولية تستغل يأسهم، ففي تطور متزامن مع كارثة أبين، أعلنت الشرطة الإسبانية تفكيك شبكة تهريب معقدة يشتبه في نقلها لمهاجرين، أغلبهم من اليمن، إلى بريطانيا وكندا باستخدام جوازات سفر مزورة.
وبحسب السلطات، فإن المهاجرين كانوا يحصلون أولاً على صفة لاجئ في اليونان، قبل أن يُنقلوا إلى مطارات أوروبية، حيث يتسلمون وثائق سفر مزيفة تساعدهم في التوجه إلى وجهاتهم النهائية.
نفذت الشبكة أكثر من 40 عملية تهريب، وفرضت رسومًا تصل إلى 3 آلاف يورو لكل مهاجر.
وبالتعاون مع أجهزة أمنية أوروبية، شملت التحقيقات تتبع حجوزات الطيران، التحويلات المالية، وتحليل لقطات الكاميرات وتصاريح السفر؛ ما أدى إلى اعتقال 11 شخصًا، من بينهم زعيم الشبكة المفترض.
لماذا يخاطرون رغم المخاطر؟
السؤال الذي لا يملك جوابًا بسيطًا، لماذا يخاطر هؤلاء المهاجرون بركوب قوارب الموت؟ في الغالب، يكون الدافع هو الفقر المدقع أو النزاعات المسلحة أو الانهيار الاقتصادي في بلدانهم الأصلية.
بعضهم يظن أن اليمن - رغم الحرب - قد يكون بوابة إلى فرص عمل في الخليج، أو نقطة انتقال نحو أوروبا، لكن المفارقة أن اليمن نفسه يعاني من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم، ويشكل معبرًا مزدوجًا للموت: في البر والبحر.
بحسب المنظمة الدولية للهجرة، فإن أكثر من 60 ألف مهاجر دخلوا اليمن منذ بداية 2024، ورغم إدراك كثير منهم للمخاطر، إلا أن غياب البدائل يدفعهم للاستسلام لوعود المهربين الذين يقدمون أنفسهم كمنقذين، ثم يتركون ضحاياهم يواجهون المصير وحدهم في عرض البحر أو في مطارات لا ترحم.
التحرك الدولي ما يزال خجولًا
في ظل تكرار هذه المآسي، تتعالى الدعوات لتعزيز التنسيق الدولي لمكافحة شبكات التهريب، وتحسين ظروف استقبال المهاجرين في نقاط العبور، وتكثيف الرقابة البحرية. إلا أن التحركات ما تزال محدودة، وغالبًا ما تكون ردود الفعل آنية تتبع الكارثة ولا تسبقها.
ويرى مراقبون، أن الأزمة لن تُحل دون مقاربة شاملة تعالج جذور الهجرة: الفقر، والحروب، وانعدام التنمية، بالإضافة إلى تطوير سياسات هجرة أكثر إنسانية في الدول المستقبلة. كما أن دعم برامج التوعية في بلدان المنشأ قد يساعد في تقليص أعداد من يقعون في فخ شبكات التهريب.
فشلًا مزدوجًا
يرى المحلل السياسي اليمني فارس البيل، أن استمرار توافد المهاجرين إلى السواحل اليمنية، رغم تصاعد الكوارث والاضطرابات الأمنية، يُظهر فشلًا مزدوجًا: داخليًا من حيث غياب سيطرة الدولة على الحدود البحرية، وخارجيًا من حيث غياب معالجة جذرية لأسباب الهجرة من القرن الإفريقي.
ويوضح في حديثه لـ"العرب مباشر"، أن اليمن تحوّل خلال السنوات الأخيرة إلى "نقطة اختناق إنساني"، ليس فقط بسبب الحرب، بل لأنه يقع على تقاطع طرق عبور يستخدمها المهربون بتواطؤ محلي في بعض الأحيان.
ويضيف البيل، أن المسار الشرقي للهجرة، الذي يمتد من القرن الإفريقي إلى اليمن، ومنه إلى دول الخليج أو حتى شمال إفريقيا وأوروبا، لم يحظَ بالاهتمام الدولي الكافي رغم ارتفاع عدد ضحاياه سنويًا.
كما يؤكد أن وجود شبكات تهريب عابرة للحدود، تعتمد على مستندات مزورة وتنسيقات في مطارات دولية، يدل على بنية إجرامية شديدة التنظيم تستفيد من هشاشة الأنظمة والهروب الجماعي من الفقر.
ويختم قائلاً: إن مواجهة هذه الكارثة لا تكون فقط بتفكيك شبكات التهريب، بل بإطلاق مشروع دولي لإعادة تأهيل المناطق المُصدّرة للهجرة، وبناء أنظمة لجوء قانونية، وتوسيع نطاق التعاون الإقليمي بين اليمن وجيرانه في البحر الأحمر، باعتبار أن القضية تمس الأمن الإنساني والإقليمي في آن.