في غياب إسرائيل وواشنطن.. دبلوماسية الرياض تعيد رسم خرائط الشرق الأوسط
في غياب إسرائيل وواشنطن.. دبلوماسية الرياض تعيد رسم خرائط الشرق الأوسط

في مشهد دبلوماسي قلّ نظيره منذ عقود، أعادت المملكة العربية السعودية، إحياء النقاش الدولي حول حل الدولتين، في محاولة غير مسبوقة لتحريك المياه الراكدة في ملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فعلى منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة، التأم حشد غير اعتيادي من وزراء خارجية العالم للمشاركة في مؤتمر رفيع المستوى، غابت عنه الولايات المتحدة وإسرائيل، لكنه حمل مؤشرات مفصلية: دعم سياسي متنامٍ للاعتراف بالدولة الفلسطينية، وخريطة طريق جديدة تتضمن التزامات زمنية واضحة.
بينما اختارت واشنطن موقف المتفرج، أظهر الرئيس الأميركي دونالد ترمب عدم ممانعة تجاه تحركات حلفائه الأوروبيين، ما فتح المجال أمام زخم دولي متصاعد، وبينما يشهد الشرق الأوسط تصعيدًا عسكريًا غير مسبوق منذ عقود، تعوّل العواصم الغربية والعربية على هذه المبادرة لإعادة ضبط الإيقاع السياسي، واستعادة الحد الأدنى من التوازن في منطقة أرهقها الاحتلال والحروب والانقسامات الداخلية، فهل ينجح هذا الحراك السعودي الاستثنائي في تحويل شعار "حل الدولتين" إلى واقع سياسي ملموس.
*جهود استثنائية*
بدأ مؤتمر حل الدولتين أعماله في نيويورك وسط مشاركة دولية واسعة وتنسيق سعودي - فرنسي رفيع، في خطوة وُصفت بأنها الأكثر جرأة منذ انهيار مفاوضات السلام الفلسطينية - الإسرائيلية قبل أكثر من عقد.
وبرعاية المملكة العربية السعودية، وحضور وزراء خارجية من أكثر من 17 دولة، اجتمع المجتمع الدولي لإعادة تفعيل أحد أكثر الحلول تعقيدًا وتأجيلاً في تاريخ النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي.
اللافت في هذا المؤتمر، الذي انعقد تحت قبة الجمعية العامة للأمم المتحدة، لم يكن فقط الحضور الدبلوماسي الكثيف، بل الغياب المدوي لكل من إسرائيل والولايات المتحدة.
ومع ذلك، فإن ردود الفعل الأميركية، خصوصًا من الرئيس دونالد ترمب، لم تُظهر أي اعتراض واضح، بل جاءت تعليقاته مقتضبة ولا تنم عن رفض، ما فُسر بأنه ضوء أصفر يسمح باستمرار الزخم دون تدخل مباشر.
*محطة مفصلية*
من جانبه، أعلن وزير الخارجية السعودي، الأمير فيصل بن فرحان، أن هذا المؤتمر يمثل "محطة مفصلية" يجب أن تُترجم إلى خطوات عملية لإنهاء الاحتلال وتمكين الفلسطينيين من إقامة دولتهم على حدود ما قبل 1967، مؤكدًا أن "حل الدولتين هو مفتاح استقرار المنطقة".
من جهته، دعا وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو إلى وقف الحرب في غزة، مؤكدًا أن الاعتراف بالدولة الفلسطينية لم يعد مجرد موقف رمزي بل ضرورة سياسية عاجلة.
في كلمته الافتتاحية، حمّل الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، الاحتلال مسؤولية تعطيل فرص السلام، مندّدًا بالتوسع الاستيطاني والعنف المنهجي ضد الفلسطينيين، وشدّد على أن المؤتمر يجب أن يُفضي إلى نقطة تحوّل لا رجعة فيها.
ومن أبرز المحاور التي طُرحت خلال المؤتمر، تقديم خريطة طريق سياسية واضحة تتضمن التزامات زمنية، تبدأ بوقف فوري للحرب في غزة، تليها خطوات لإعادة إعمار القطاع، وتوحيد الضفة وغزة تحت سلطة فلسطينية واحدة، على أن تتبعها مفاوضات لإنشاء دولة فلسطينية معترف بها دوليًا.
وقالت السفيرة السعودية لدى الأمم المتحدة، منال رضوان: إن "المؤتمر يجب أن يرتكز على خطة موثوقة تعالج جذور النزاع وتوفر مسارًا حقيقيًا نحو السلام".
*فرصة تاريخية*
سياسيًا، يُنظر إلى المؤتمر كمقدمة لسلسلة تحركات دبلوماسية أوسع، فمع إعلان فرنسا نيتها الاعتراف بدولة فلسطين، يُتوقع أن تحذو دول أوروبية أخرى حذوها خلال الأسابيع المقبلة؛ ما يرفع عدد الدول المعترفة بالدولة الفلسطينية إلى أكثر من 150.
ويتداول المسؤولون في أروقة الأمم المتحدة بشأن قمة دولية قد تُعقد في سبتمبر المقبل بالتزامن مع انعقاد الدورة الثمانين للجمعية العامة، لتكريس نتائج المؤتمر سياسيًا.
على الصعيد الفلسطيني، ثمّن رئيس الوزراء محمد مصطفى الجهود السعودية والفرنسية، واعتبر أن "انعقاد هذا المؤتمر يُشكل فرصة تاريخية يجب التقاطها"، داعيًا إلى توحيد الصف الفلسطيني وتسليم السلاح من قبل حماس لصالح السلطة الفلسطينية، تمهيدًا لإقامة دولة واحدة موحدة.
في المقابل، التزمت إسرائيل صمتًا حذرًا، بينما تصاعدت تصريحات داخل الحكومة الإسرائيلية ترفض فكرة إقامة دولة فلسطينية، معتبرة أنها "خط أحمر لا يمكن التفاوض عليه". ويُتوقع أن تواجه نتائج المؤتمر مقاومة سياسية من تل أبيب، وربما خطوات ميدانية لتقويض مخرجاته، كما حدث في مبادرات سابقة.
*تحشيدًا دوليًا مدروسًا*
من جانبه، يقول يرى المستشار القانوني ممدوح الشمري: إن ما تقوده المملكة العربية السعودية في مؤتمر نيويورك لا يقتصر على تحرّك دبلوماسي تقليدي، بل يُمثل تحشيدًا دوليًا مدروسًا ضمن استراتيجية أوسع لبناء جبهة دولية ضاغطة لإعادة الاعتبار للمبادئ المؤسسة لميثاق الأمم المتحدة ولقرارات الشرعية الدولية الخاصة بالقضية الفلسطينية.
ويؤكد الشمري في حديثه لـ"العرب مباشر"، أن الرياض لا تتصرف كوسيط محايد بل كقوة إقليمية تنخرط بفاعلية في تشكيل المشهد السياسي الدولي، مستفيدة من ثقلها الاقتصادي والتحالفات التي راكمتها خلال السنوات الماضية، مضيفًا، نحن أمام محاولة سعودية منظمة لإعادة تعريف معادلات الضغط داخل الأمم المتحدة.
وأشار الشمري، أن الحضور الكثيف لوزراء خارجية العالم، وتشكيل لجان متخصصة داخل المؤتمر، يعكس رغبة سعودية واضحة في خلق كتلة دبلوماسية ذات طابع قانوني وأخلاقي، تعمل على كسر الجمود المفروض على ملف حل الدولتين.
ويرى أن الضغط السعودي يتركّز على تحريك المواقف الأوروبية وتوسيع الاعتراف الدولي بفلسطين، لتشكيل أمر واقع سياسي وقانوني يصعب التراجع عنه لاحقًا، في ظل تراجع القدرة الأميركية على فرض إرادتها بشكل منفرد في هذا الملف.
*رسالة مزدوجة*
من جهته، يرى د. طارق فهمي أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، أن التحرك الدبلوماسي السعودي في الأمم المتحدة لتثبيت رؤية "حل الدولتين" لا يمكن فصله عن التوقيت السياسي شديد الحساسية الذي تمر به المنطقة، فالمملكة، بحسب قوله، لا تطرح رؤية تقليدية، بل تعيد تعريف معادلة الصراع عبر أدوات القانون الدولي وشرعية الأمم المتحدة، ما يمنح تحركها ثقلًا مضاعفًا على الساحة الدبلوماسية.
ويضيف فهمي في تصريحات لـ"العرب مباشر"، أن رعاية السعودية لمؤتمر دولي عالي المستوى في نيويورك، بالشراكة مع فرنسا، يعكس تصميمًا استراتيجيًا على لعب دور قيادي لا يقتصر على الوساطة، بل يتعداه إلى صياغة أجندة إقليمية جديدة تضع حداً للجمود السياسي.
ويشير أن اختيار التوقيت في ظل استمرار التصعيد في غزة، وتآكل الشرعية السياسية لحكومة نتنياهو، وتنامي الاعترافات الأوروبية بالدولة الفلسطينية ليس عشوائيًا، بل هو استثمار ذكي في لحظة دولية مواتية لتحريك ملف ظل رهينة الحسابات الضيقة لعقود.
ويؤكد أستاذ العلاقات الدولية، أن السعودية، من خلال هذا التحرك، ترسل رسالة مزدوجة، الأولى إلى المجتمع الدولي بقدرتها على قيادة تحالفات سياسية مؤثرة، والثانية إلى الفاعلين الإقليميين بأن الصراع الفلسطيني لم يعد ورقة للمناورة، بل ملفًا يجب أن يُحسم ضمن رؤية واقعية ومستدامة.