حلف الناتو أمام اختبار ترامب: الأمن أم الاقتصاد؟
حلف الناتو أمام اختبار ترامب: الأمن أم الاقتصاد؟

يجد حلف شمال الأطلسي نفسه أمام اختبار صعب في ظل تصاعد الضغوط الأمريكية لزيادة الإنفاق الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو مطلب يتبناه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ويدعمه وزير دفاعه الجديد.
هذه الخطوة، التي وصفها مراقبون بأنها "قنبلة مالية"، تضع العديد من الدول الأوروبية وكندا في موقف حرج، نظرًا لصعوبة تحقيقها على المدى القريب.
وبينما يسعى الحلفاء إلى تحقيق توازن بين متطلبات الأمن القومي والقدرة المالية، تلوح في الأفق مخاوف من انقسامات داخلية قد تهدد وحدة الناتو.
وفي ظل الحرب الأوكرانية المتواصلة، وتلميحات واشنطن بالتراجع عن التزاماتها الأمنية تجاه أوروبا، يبرز التساؤل: هل يستطيع الحلفاء التكيف مع المتغيرات الجيوسياسية أم أن الضغوط الأمريكية ستعيد رسم خريطة التحالف؟
*تصعيد أمريكي يضع الناتو في مأزق*
طوال عقد من الزمن، سعى حلف شمال الأطلسي لضمان أن يخصص كل عضو على الأقل 2% من ناتجه المحلي الإجمالي للإنفاق العسكري، وهو هدف تحقق بالفعل لدى 24 دولة من أصل 32. لكن الإدارة الأمريكية، بقيادة ترامب، تطالب الآن بزيادة هذا السقف إلى 5%، ما أشعل جدلًا واسعًا داخل الحلف.
هذا الطرح الذي وصفته مجلة "بوليتيكو"، بأنه "قنبلة مالية"، دفع العواصم الأوروبية إلى إعادة حساباتها وسط تحديات اقتصادية متزايدة، وفقًا لـ"رويترز".
مع احتدام الجدل، يترقب الجميع اجتماع وزراء دفاع الناتو في بروكسل، يليه مؤتمر ميونيخ للأمن، حيث ستكون المطالب الأمريكية على رأس جدول الأعمال.
ويتعين على الحلفاء الآن الموازنة بين الحاجة إلى ردع روسيا والحفاظ على التزام واشنطن بالدفاع عن أوروبا، في ظل ميزانيات تعاني من ضغوط مستمرة.
*عائق اقتصادي أمام الاستجابة الفورية*
رغم تصاعد الضغوط الأمريكية، لا تبدو معظم الدول الأوروبية وكندا قادرة على رفع إنفاقها الدفاعي بشكل فوري.
السفيرة البريطانية المنتهية ولايتها لدى واشنطن، كارين بيرس، أوضحت أن التزامًا كهذا يعتمد بدرجة كبيرة على الوضع الاقتصادي لكل دولة، ما يعني أن بعض العواصم قد لا تكون مستعدة للقفز إلى مستوى 5% في المدى المنظور.
لعبت تخفيضات الميزانيات الدفاعية بعد الحرب الباردة دورًا في إضعاف القدرات العسكرية الأوروبية، ما يجعل العثور على تمويل إضافي لتحديث الجيوش أمرًا بالغ الصعوبة.
ومع استمرار الحرب في أوكرانيا، تزداد الحاجة إلى تعزيز القدرات الدفاعية، لا سيما في ظل إشارات من واشنطن إلى إمكانية تقليص التزاماتها الأمنية في أوروبا.
*رسالة أمريكية صارمة*
وزير الدفاع الأمريكي الجديد، بيت هيغسيث، لم يترك مجالًا للشك بشأن نوايا واشنطن، مؤكدًا من مقر الناتو في بروكسل أن الولايات المتحدة لن تكون قادرة على التركيز بشكل أساسي على الأمن الأوروبي، وأن على الأوروبيين تحمل مسؤولية أمنهم التقليدي.
هذه الرسالة أثارت قلقًا واسعًا بين الحلفاء، خاصة أنها تتزامن مع نقاشات حاسمة حول مستقبل الحلف، وفقًا لـ"رويترز".
وفقًا لتحليل لشبكة "سي إن إن"، فإن اجتماع وزراء دفاع الناتو في بروكسل لم يكن مجرد لقاء لمناقشة المساعدات العسكرية لأوكرانيا، بل لحظة مفصلية تكشف عن نهج جديد للبيت الأبيض.
الموقف الأمريكي المستجد، الذي يتضمن إشارات إلى إعادة التفكير في دعم أوكرانيا، أعاد خلط الأوراق، وترك الحلفاء في مواجهة أزمة جديدة تهدد بتعميق الانقسامات داخل الحلف.
صمت أوروبي وتحفظ على تصريحات ترامب
رغم الضجة التي أثارتها تصريحات ترامب الأخيرة حول إمكانية تغيير مستقبل أوكرانيا، اختار القادة الأوروبيون التريث في الرد.
وزير الدفاع اللاتفي، أندريس سبرودس، شدد على أهمية رؤية "خطة واضحة"، في حين تجنب الأمين العام للناتو، مارك روته، التطرق إلى القضية بشكل مباشر.
بحسب محللين، فإن مطلب ترامب بزيادة الإنفاق الدفاعي يعيد تشكيل الناتو إلى ثلاث مجموعات رئيسية.
الأولى، وتضم دول البلطيق وبولندا، التي تنفق بالفعل قرابة 5% على الدفاع، وتعتبر أن الامتثال للمطلب الأمريكي ضروري للحفاظ على دعم واشنطن.
أما المجموعة الثانية فتشمل دولًا مثل المملكة المتحدة والدول الإسكندنافية، التي تقترب ميزانياتها الدفاعية بالفعل من 3%، وهي على استعداد لزيادة الإنفاق، لكنها ترفض الالتزام الأعمى بالسقف الذي يطالب به ترامب.
المجموعة الثالثة، التي تشمل بلجيكا وإيطاليا، تبدو أكثر تحفظًا، إذ تواجه هذه الدول صعوبات اقتصادية تجعلها غير قادرة على تحقيق قفزة مفاجئة في ميزانياتها العسكرية، رغم وعودها بالوصول إلى 2.5% خلال العقد المقبل، وفقًا لـ"رويترز".
يرى دبلوماسيون أوروبيون، أن فرض زيادات كبيرة في الإنفاق قد يترك أثرًا سلبيًا على وحدة الحلف، حيث يمكن أن يؤدي إلى استياء بين الدول التي تتحمل العبء الأكبر.
كما أن شركات التصنيع العسكري قد لا تكون قادرة على تلبية الطلبات المتزايدة على الأسلحة والمعدات بالوتيرة المطلوبة.
في ظل هذه التعقيدات، يواجه الناتو تحديًا غير مسبوق: كيف يمكن الحفاظ على التماسك الداخلي في مواجهة الضغوط الأمريكية المتزايدة؟ ومع تصاعد التوترات العالمية، يبقى السؤال الأهم: هل تستطيع أوروبا إعادة صياغة استراتيجيتها الدفاعية دون الاعتماد الكامل على واشنطن، أم أن الأزمة الحالية ستشكل بداية لتغيير جذري في دور الحلف؟