بين محراب المعرفة وركن الصلاة.. تونس على صفيح ساخن بسبب جدل منع الصلاة داخل المدارس
بين محراب المعرفة وركن الصلاة.. تونس على صفيح ساخن بسبب جدل منع الصلاة داخل المدارس

يشهد الشارع التونسي نقاشًا محتدمًا حول مشروعية الصلاة داخل المدارس بعد حادثة أثارت الرأي العام في مدينة الحمامات، الواقعة، التي بدأت بمقطع فيديو لطالب مُنع من أداء الصلاة في ساحة المعهد، سرعان ما تحوّلت إلى قضية رأي عام، لتشعل سجالًا حول حدود حرية الممارسات الدينية في الفضاء التربوي، فبين من يرى أن المدرسة يجب أن تبقى محرابًا للعلم فقط، وبين من يطالب بتمكين الطلاب من ممارسة شعائرهم في وقت الاستراحة، انقسمت الآراء على مواقع التواصل الاجتماعي وفي الأوساط التربوية والدينية، القضية لم تعد مجرّد حادثة عابرة، بل فتحت بابًا أوسع للنقاش حول علاقة المدرسة بالحياد الديني، ودور الدولة في تنظيم الشعائر داخل الفضاءات العامة، وسط تساؤلات حول توازن دقيق بين متطلبات النظام والانضباط من جهة، وحرية الضمير والمعتقد من جهة أخرى.
حرية التدين أم الإلتزام بالقوانين الداخلية
الجدل حول الصلاة في المدارس التونسية ليس جديدًا، لكنه اكتسب هذه المرة زخمًا خاصًا بعد أن تفاعل آلاف النشطاء مع مقطع فيديو يُظهر مسؤولة إدارية وهي تمنع طالبًا من أداء الصلاة في ساحة معهد محمد بوذينة بالحمامات.
الفيديو، الذي انتشر كالنار في الهشيم، لم يقتصر تأثيره على التعليقات الافتراضية، بل دفع بعض الطلاب إلى تنظيم صلاة جماعية احتجاجًا على القرار، في مشهد يختزل الصراع الرمزي بين حرية التدين والالتزام بالقوانين الداخلية للمؤسسات التربوية.
المسألة تعكس في عمقها نقاشًا أوسع تعيشه تونس منذ الثورة، حول طبيعة الدولة وحدود الحريات الفردية والجماعية.
فالقوانين التربوية تنص على حيادية المدرسة وتركز على رسالتها التعليمية، لكنها لا تقدم نصًا صريحًا يمنع ممارسة الشعائر الدينية خلال الأوقات غير المخصصة للدراسة.
غموض قانوني
هذا الغموض القانوني جعل كل طرف يقرأ النصوص وفق منظوره، دعاة الحياد يرون أن السماح بالصلاة داخل المدارس يفتح الباب لتحويلها إلى فضاءات ذات طابع ديني، ما قد يهدد مبدأ المساواة بين الطلاب ويؤدي إلى صراعات فكرية أو طائفية.
في المقابل، يؤكد المدافعون عن حق الصلاة أن الفضاء المدرسي يجب أن يستوعب البُعد الروحي للطلاب، تمامًا كما يوفر أنشطة رياضية وثقافية وفنية، معتبرين أن حرمانهم من أداء الصلاة يتعارض مع الدستور الذي يضمن حرية المعتقد والضمير.
النائبة فاطمة المسدي، أكدت فيها أن المدرسة العمومية هي فضاء للتعلم وتكوين العقول، وليست مكانًا لتطبيق الشعائر الدينية، مشددة على أن الدستور يضمن حرية المعتقد، لكنه يفرض في المقابل حياد المؤسسات التربوية.
وأوضحت المسدي، أن فتح الباب أمام ممارسة شعيرة بعينها قد يفرض فتحه أمام كل الديانات، ما يفرغ المدرسة من وظيفتها الأساسية في التربية والتعليم.
حلول وسط
مراقبون يرون أن القضية تحمل أبعادًا اجتماعية وثقافية أكثر من كونها مسألة إدارية بسيطة. فالمجتمع التونسي، الذي عُرف تاريخيًا بوسطية ممارساته الدينية، يواجه اليوم موجات متناقضة من التغريب والتشدد، وهو ما يجعل أي قرار يتعلق بالشعائر الدينية داخل المؤسسات التعليمية محاطًا بتأويلات أيديولوجية.
من جانبه، قال الإعلامي وليد أحمد الفرشيشي: إن "المعاهد ليست مساجد، ومن الضروري حماية الحياد التربوي حتى لا تتحول المدرسة إلى ساحة صراع ديني"، بينما اعتبرت المدونة سعيدة حمدي أن "تضييق الخناق على الطالب الملتزم بصلاة فردية لا يضر العملية التعليمية بل يساهم في بناء شخصية متوازنة أخلاقيًا وروحيًا".
في ظل هذا الجدل، تبرز دعوات إلى حلول وسط، مثل تخصيص قاعات صغيرة للصلاة داخل المؤسسات التعليمية، على غرار ما هو معمول به في بعض الجامعات الغربية، مع ضبط أوقات الصلاة بحيث لا تتعارض مع سير الدروس.
مثل هذا الخيار قد يخفف حدة الاستقطاب، لكنّه يتطلب إرادة سياسية وتشاورًا واسعًا بين وزارة التربية والنقابات والأئمة وخبراء علم الاجتماع، لضمان ألا تتحول الخطوة إلى وسيلة لنشر دعايات سياسية أو مذهبية.
إفلاس فكري
البعد الآخر للنقاش يتعلق بدور الدولة في حماية التلاميذ من كل أشكال التطرف أو الاستغلال، فالمعارضون لفكرة الصلاة داخل المدارس يحذرون من استغلالها لتجنيد الطلاب أو بث أفكار متشددة، خاصة في ظل انتشار جماعات دينية تحاول التأثير على الشباب.
هنا تبرز الحاجة إلى مقاربة شاملة تأخذ بعين الاعتبار الأمن الفكري للتلاميذ دون مصادرة حقوقهم الدينية.
من جهته، قال الداعية عبد القادر الونيسي: إن الجدل القائم حول منع الصلاة داخل المدارس ليس سوى محاولة لصرف أنظار التونسيين عن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الخانقة التي تعصف بالبلاد.
واعتبر أن إعادة فتح نقاشات قديمة تعود إلى عهد بورقيبة وبن علي حول حياد المدرسة وتجفيف منابع التدين يكشف عمّا وصفه بـ"إفلاس فكري"، حيث لم تعد السلطات قادرة على تقديم حلول لمشاكل البطالة والتضخم وغلاء المعيشة، فلجأت إلى معارك هووية لإشغال المواطنين.
وأكد أن منع الطلاب من أداء الصلاة يعد انتهاكًا صريحًا لحرية المعتقد التي يضمنها الدستور، ويمثل تعبيرًا عن عداء متجذر للدين.
وختم بالتحذير من أن الاستقطاب الاجتماعي سيشتد إذا لم يُحلّ الخلاف بالحوار والتوافق، قائلاً: إن التاريخ لن يرحم من يسن قرارات تقيد الحريات الدينية.