سيناريوهات وتداعيات الحرب الأهلية في إثيوبيا
تشهد إثيوبيا حربا أهلية بين قوات آبي أحمد وقوات تيغراي
انتهت جميع مشروعات وطموحات رئيس الوزراء الإثيوبي “آبي أحمد” باندلاع حرب أهلية شاملة، وصولا إلى معضلة الدولة الإثيوبية بانكشاف أزمة يصعب تدارك تداعياتها (داخليًّا وإقليميًّا في واقع الأمر)، نتيجة لما يحدث في إثيوبيا في الوقت الحالي.
بينما يزداد الوضع سوءًا في إثيوبيا، وفي ظل تدهور الأوضاع بالتزامن مع تقدم القوات المتحالفة ضد الحكومة الفيدرالية والتي أعلن آبي أحمد الانضمام إلى الحرب وترك مهام منصبه لنائبه ووزير خارجية إثيوبيا ديميكي ميكونين، حثت الحكومة البريطانية رعاياها على ضرورة مغادرة البلاد، لتنضم بذلك إلى فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة والأمم المتحدة.
الحرب الأهلية الإثيوبية
تقرير عن مؤسسة رؤية ذكر أنه بادر آبي أحمد، بعد بدء مهام رئاسته للوزراء في فترتها الثانية (4 أكتوبر 2021)، بما وصفته قوات جبهة تحرير التيجراي “هجومًا موسعًا” ضد قوات المعارضة أملًا في تحقيق حسم مؤجل منذ شهور. وأصبح تحقيق “الحسم” المحك الرئيس لاستمرار آبي أحمد من عدمه في السياسة الإثيوبية في الفترة المقبلة؛ لاسيما مع تمدد رقعة الحرب الأهلية خارج إقليم التيجراي إلى أقاليم العفر والصومالي وأوروميا، التي تعاني اضطرابات سياسية وأمنية معقدة سواء قبل تولي آبي أحمد الحكم، وأثناء وزارته. ويمثل إقليما “أوروميا” و”الصومال” وحدهما نحو ثلثي مساحة البلاد وقرابة نصف عدد سكانها حسب التقديرات الرسمية الإثيوبية التي تتصف عادة بعدم دقتها وتوجيهها لأغراض سياسية. وفي ظل استقطاب حاد بين نظام آبي أحمد والقوى المعارضة له.
وتوفرت قُبيل أكتوبر الفائت تقارير متزايدة عن استخدام التجويع كسلاح والتوسع في عمليات “التطهير الإثني” من بين جرائم حرب أخرى؛ بينما اتضح تدهور علاقات إثيوبيا الدبلوماسية مع شركائها الغربيين بعد استقرار براغماتي ومفهوم في هذه العلاقات طوال عقود بالرغم من مقاربات نظم الحكم الإثيوبية سياسات استبدادية وتهميشية منهجية ضد إثنيات وجماعات بعينها في البلاد.
وعند مراجعة عام كامل من “الحرب الأهلية” بمستويات مختلفة في إثيوبيا يلاحظ أن أخطاء آبي أحمد لم تقتصر على سوء تقديره للقدرة القتالية لجبهة تحرير التيجراي، التي سيطرت على الجيش الإثيوبي لمدة 27 عامًا خلال إدارتها للبلاد حتى العام 2018؛ بل إنه عمل على جمع مجموعات متباينة من القوات الهشة وغير المدربة (بما فيها ميليشيات مسلحة من إقليم الأمهرا)، وجنود من إريتريا ارتكبوا بعض أسوأ الانتهاكات في الحرب بحق مواطنين إثيوبيين شملت الاغتصاب والمذابح الأهلية؛ وهي تهم قد تطال جميع الأطراف المتورطة في الحرب بما فيها جبهة تحرير التيجراي. وأسفرت الحرب عن كارثة إنسانية متعمدة بمقتل آلاف المدنيين والعسكريين الإثيوبيين، ومعاناة نحو 400 ألف مواطن من مجاعة خطيرة، وتشرد نحو 2 مليون نسمة؛ ليتجاوز إجمالي المشردين داخليًّا في إثيوبيا خمسة ملايين نسمة، وتصبح الحالة الأبرز عالميًّا. وتتجاوز هذه الأرقام حاليًّا إجمالي عدد المشردين داخليًّا في سوريا واليمن وعدة دول أخرى مجتمعة، مما يثير السخرية من تلويح آبي أحمد بأن قوى خارجية تريد تحويل إثيوبيا لسوريا وليبيا أخرى، دون توجيه الاهتمام الدولي الكافي بهذه الأزمة الخطيرة.
الحرب الأهلية في إثيوبيا
تُطرح بين حين وآخر قراءات “لحظية” لأهم سيناريوهات الحرب الأهلية الحالية في إثيوبيا. ويمكن القول إن سيناريوهات الأزمة تكتسب أبعادًا “توافقية” وداخلية أكثر من أفكار “تقسيم إثيوبيا” أو تفتتها إلى عدة دول. ورغم طرح فكرة التقسيم أو التخوف البالغ منها؛ لاسيما في أوساط الدول الغربية وعدد لا يستهان به من دول إفريقيا جنوب الصحراء، فإنها تظل هاجسًا غير واقعي في المرحلة الحالية أو على المدى المتوسط. كما أنها تمثل “تهديدًا” يُلَوح به نظام آبي أحمد من حين لآخر بشكل غير مباشر. ومن هنا يمكن طرح أهم السيناريوهات المرتقبة على النحو التالي:
نجاح الضغوط الدولية والوساطة الكينية الحالية في ضبط أداء نظام آبي أحمد ومواقفه من الأزمة. ويرجح توقيت زيارة الرئيس الكيني “أوهورو كينياتا” لأديس أبابا (15 نوفمبر) بالتزامن مع جولة وزير الخارجية الأميركي “أنتوني بلينكن” وجدولة زيارته نيروبي في اليوم نفسه ما يدل على وجود دعم أميركي قوي للوساطة الكينية. ويقصد بضبط الأداء دفع حكومة أحمد نحو إطلاق حوار وطني شامل، وهي الخطوة المؤجلة منذ سنوات، وأن يكون دور آبي أحمد انتقاليًا ومحددًا بفترة زمنية قصيرة للغاية؛ في حال قبول أي دور له فعليًا. ويتوقع هذا السيناريو بشكل كبير مع تزايد عزلة آبي أحمد الإقليمية والدولية، وبدء نفاد صبر الإدارة الأميركية إزاء استجابته للأزمة، واحتمالات دفع واشنطن بقوة أكبر في اتجاه دعم المعارضة المسلحة لنظام آبي أحمد بعد اجتماع تسع جماعات من أهمها “جيش تحرير أورومو” و”جبهة تحرير تيجراي” هناك مطلع نوفمبر الجاري.
حدوث تصدع متوقع في بنية نظام آبي أحمد لعدة اعتبارات أبرزها: الانهيار الاقتصادي الذي تشهده البلاد؛ إضافة إلى احتمالات سيطرة قوات المعارضة على الطرق الرئيسة التي تربط أديس أبابا بميناء جيبوتي، منفذ إثيوبيا البحري الرئيس؛ وتآكل “مشروعية سد النهضة” كعامل- وحيد ربما- لحشد المواقف الإثيوبية خلف آبي أحمد؛ وتخوف جماعات الأمهرا من استهدافها الدائم من قبل الإثنيات الأخرى، لاسيما التيجراي والأورومو؛ ومن ثم فك ارتباطها العضوي بنظام آبي أحمد تفاديًا لعواقب وخيمة؛ ثم الفراغ الجيواستراتيجي القائم في إقليم القرن الإفريقي برمته جراء الأزمة الإثيوبية وفقدان أديس أبابا مكانتها.
أما السيناريو الأخير فإنه يتسق بشكل كبير مع رؤية آبي أحمد “الشخصانية” الدينية لمستقبل الدولة الإثيوبية؛ إذ من المتوقع أن يواصل آبي أحمد قدر استطاعته القفز فوق المشكلة القائمة، والجدل بشأن الحلول الممكنة، لاسيما السياسية، وتجاهل مطالب مجموعات غالبة من الإثنيات المهمشة تاريخيًّا لصالح تصوراته الإمبراطورية. وسيكون هذا السيناريو مصحوبًا بتصعيد المواجهات العسكرية، وجعلها نقطة الحسم الرئيسة، وربما الوحيدة، في الاحتراب الأهلي الإثيوبي.
التداعيات الإقليمية لـ"الحرب الأهلية” الإثيوبية
رغم ارتكاز هذه السيناريوهات بالأساس على المخرجات الداخلية للحرب الأهلية الإثيوبية فإنها ترتبط ارتباطًا وثيقًا، من جهة، بتداعياتها الإقليمية، وإن كان في مسار واحد من إثيوبيا في الوقت الراهن بعد تحجيم التأثير الإريتري في الأزمة. ويمكن رصد أهم هذه التداعيات على النحو التالي:
انخرطت إريتريا بشكل كامل في تفاعلات الحرب الأهلية الإثيوبية؛ وتراجع دورها عقب تمكن جبهة تحرير التيجراي والقوى الحليفة لها من تحقيق انتصارات على الأرض ضد قوات آبي أحمد. وتؤثر الحرب في إثيوبيا على إريتريا من عدة نواح: حيث ستضعف الهزيمة العسكرية الحالية للقوات "الإثيوبية- الإريترية" الحليفة من قوة نظام أسياس أفورقي وقواته المسلحة داخل إريتريا. أما خارجيًا، فمن المتوقع أن تزداد هشاشة نظام أفورقي بفضل إعادة نظام العقوبات "الأميركية- الأوروبية" عليه في الشهور الأخيرة، وكان أحدثها فرض وزارة الخزانة الأميركية (12 نوفمبر الجاري) عقوبات على الجيش الإريتري والحزب الحاكم بإريتريا (الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة)، وعدد من أبرز الشخصيات الإريترية مثل أبرهة كاسا نيميريام، وهيدري تراست، وهاجوس جبريهيوت كيدان، ومؤسسة البحر الأحمر التجارية Red Sea Trading Corporation على خلفية الأزمة الإثيوبية.
الحرب الأهلية الإثيوبية
تمثل الأزمة الإثيوبية تهديدًا وجوديًّا للإقليم برمته وليس لإثيوبيا وحدها؛ حيث قد يقود تصاعد الاضطرابات إلى ارتفاع ضخم في أعداد اللاجئين الذين سيسعون إلى عبور الحدود الإثيوبية إلى دول الجوار، في تكرار كارثي ومضاعف لأزمة لجوء التيجرانيين إلى السودان طوال العام الفائت. وتشير تقارير للأمم المتحدة -لم تنشر بعد- توقعات بمحاولة مئات الآلاف من اللاجئين الفرار إلى جيبوتي وكينيا وولاية أرض الصومال بجمهورية الصومال الفيدرالية.
وبعد صمت مطول من قبل الاتحاد الإفريقي ومؤسساته إزاء الأزمة في إقليم التيجراي عند وقوعها قبل أكثر من عام، وما نتج عنها من انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان وأعمال ارتقت –بأدلة وثقت لاحقًا- إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، ورفض متكرر لتداول المسألة إفريقيًّا باعتبارها شأنًا داخليًّا إثيوبيًّا، بادر الاتحاد بتدشين دبلوماسية نشيطة في الأزمة بقيادة مبعوثه في القرن الإفريقي الرئيس النيجيري الأسبق “أوليجسون أوباسانجو.” قامت هذه المبادرة، في جوهرها، وكما اتضح من بياني أوباسانجو أمام مجلس السلم والأمن الإفريقي ومجلس الأمن الدولي في 8 نوفمبر الجاري، على تبني مقاربة أديس أبابا للأزمة ورفض أي تدويل لها رغم الوضع الإنساني المزري القابل لمزيد من التدهور في الأسابيع المقبلة.
وتكشف المقاربات الإقليمية والدولية، وعدم القدرة على تنسيقها بشكل كاف، وجود تخوفات عميقة وتصورات متعارضة لسبل الحفاظ على النظام الإقليمي مستقرًا، في حده الأدنى. ففي حين تجنح الولايات المتحدة وخلفها قوى فاعلة في الإقليم إلى فرض التسوية وإطلاق “إثيوبيا ما بعد آبي أحمد” كحل مرحلي للأزمات الإقليمية، يواصل الاتحاد الإفريقي دورًا مضطربًا لا يحظى بقبول المعارضة المسلحة؛ مما يَشِي بفشله في النهاية، ويفسح المجال أمام المقاربة الدولية بتنسيق ثنائي مع بعض الدول الإفريقية.
تطورات الأوضاع
وكشفت دراسة للمركز المصري للفكر والدراسات أنه تؤكد التطورات الميدانية وكذلك الخبرة التاريخية أن إزاحة آبي أحمد من الحكم، ليست فقط مطلبًا داخليًا وإنما أيضًا ضرورة يتعين أن يعمل الوسطاء على التمهيد لها. واستباقًا لسيناريو سوداوي وسقوط البلاد في براثن الصراع الممتد، أو الانهيار والتفكك، بدأت الجهود الدولية والإقليمية في البحث عن خيارات لدعم جهود الوساطة والحوار بين المعارضة وآبي أحمد.
والمؤكد أن أبرز تلك السيناريوهات خروج آبي من المشهد، ليس فقط لأنه انقلب على الصيغة السياسية التي تعمل بها البلاد، وتسبب في تفاقم الوضع لما هو عليه الآن، وإنما لافتقاد حكومته للشرعية، في ضوء الاختلاف على نتائج الانتخابات المختلف عليها والتي أجراها دون توافق عام، واستطاع من خلالها تشكيل حكومته الجديدة، متناسيًا أنه جاء لاستكمال فترة سلفه “هايلي مريام ديسالين” عام 2018، وقيادة البلاد إلى انتخابات حرة ونزيهة. لكنه بدلًا من الوفاء بالأهداف التي جاء من أجلها، عمل على تغيير صيغة الحكم الفيدرالي، من أجل البقاء في الحكم، عبر حزبه الجديد “حزب الازدهار”، بما دفع البلاد نحو حافة الهاوية.