المدينة المحاصرة: كيف تحوّلت خطة إسرائيل لـ الملاذ الإنساني في غزة إلى مشروع تهجير قسري؟
المدينة المحاصرة: كيف تحوّلت خطة إسرائيل لـ الملاذ الإنساني في غزة إلى مشروع تهجير قسري؟

في خضم حرب لا تهدأ في غزة، أعلنت إسرائيل عن خطة مثيرة للجدل تحت اسم "المدينة الإنسانية"، لكن ما بدا في ظاهره بادرة إنسانية سرعان ما انكشف عن كونه مشروعًا يحمل ملامح التهجير القسري، الخطة، التي طرحها وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس، تقترح إقامة منطقة مغلقة في جنوب القطاع لنقل مئات آلاف الفلسطينيين إليها خلال هدنة مؤقتة، وسط انتقادات دولية وداخلية حادة، وفي حين تسوّق الحكومة الإسرائيلية هذا المخطط كحل مؤقت لتوفير الأمن والمساعدات، يرى مراقبون فيه مقدمة لترسيخ واقع دائم على الأرض، يعمق من مأساة الفلسطينيين بدلًا من تخفيفها، لم يتأخر الرد؛ وصفته الأمم المتحدة بـ"معسكر اعتقال"، واعتبره خبراء القانون الدولي جريمة حرب محتملة.
وبينما تعاني غزة من حرب إبادة مستمرة، تبدو هذه الخطوة كأنها محاولة لإعادة صياغة ديمغرافيا القطاع بالقوة، وسط تساؤلات عما إذا كانت "المدينة الإنسانية" بداية فصل جديد من التهجير المنظم، تحت غطاء إنساني زائف.
*سيل من الانتقادات*
كشف وزير الدفاع الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، عن خطة جديدة تهدف إلى إنشاء ما وصفه بـ"المدينة الإنسانية" في جنوب قطاع غزة، على أن تُنفذ خلال هدنة مدتها 60 يومًا.
وبحسب التفاصيل، فإن الخطة تقضي بنقل نحو 600 ألف فلسطيني إلى منطقة مغلقة، تُبنى من الصفر بين محوري فيلادلفيا وموراغ قرب الحدود المصرية.
هناك، سيتم إنشاء أربعة مراكز لتوزيع المساعدات، تديرها منظمات دولية، مع إخضاع سكان المدينة لعمليات تدقيق أمني دقيقة، والتزامهم بعدم المغادرة بمجرد دخولهم المنطقة.
لكن هذه الخطة التي وُصفت بأنها "إنسانية" لم تلق ترحيبًا خارج إسرائيل، بل وُوجهت بسيل من الانتقادات من منظمات حقوقية، وحكومات أجنبية، وحتى من الداخل الإسرائيلي نفسه.
*معسكر اعتقال*
الأمم المتحدة، عبر وكالة الأونروا، شبّهت المدينة بمعسكر اعتقال، فيما اعتبرت منظمة العفو الدولية أن الخطة تمثل تهديدًا مباشرًا بحقوق الإنسان، وترقى إلى جريمة حرب بموجب القانون الدولي.
وزير الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط، هاميش فالكونر، أعرب عن صدمته، محذرًا من أن مثل هذه الخطط تكرّس التهجير القسري وتغلق باب العودة أمام السكان. كذلك رفض المستشار الألماني فريدريش ميرتس الخطة، موضحًا أنه أعرب لنتنياهو شخصيًا عن اعتراضه على الممارسات الإسرائيلية في غزة.
من جهة أخرى، أعلنت السلطة الفلسطينية رفضها القاطع، مؤكدة أن المشروع لا علاقة له بالإنسانية، بل يشكّل غطاءً سياسياً لتهجير السكان. أما حركة حماس، فوصفت المدينة بأنها مجرد وسيلة لإبقاء سكان غزة في زاوية معزولة من القطاع، محذرة من تداعياتها الميدانية والاجتماعية.
*رفض داخلي*
الانقسام لم يتوقف عند الأطراف الدولية والفلسطينية، بل امتد إلى الداخل الإسرائيلي. رئيس الأركان، إيال زامير، وجّه انتقادات شديدة للخطة، معتبراً أنها تبعد المؤسسة العسكرية عن أولوياتها، وهي هزيمة حماس واستعادة الأسرى.
فيما حذّر قادة أمنيون من أن المدينة قد تُعيد إسرائيل إلى الحكم العسكري المباشر في غزة، وهو سيناريو لطالما سعت تل أبيب لتجنبه منذ انسحابها من القطاع عام 2005.
زعيم المعارضة الإسرائيلية، يائير لبيد، وصف الخطة بأنها "كارثة استراتيجية"، قائلًا إنها تضع إسرائيل أمام خيار غير واقعي: إما احتلال غزة مجددًا أو ترك مئات الآلاف من الفلسطينيين داخل "معسكر مسوّر".
كما أثارت التكلفة التقديرية للمشروع -التي تراوح بين 10 إلى 20 مليار شيكل (نحو 3 إلى 6 مليارات دولار)- موجة غضب داخلية، في وقت تشهد فيه إسرائيل ركودًا اقتصاديًا جراء الحرب المستمرة منذ قرابة عامين.
الخبير الأمني والضابط السابق في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، ميخائيل ميلشتاين، لم يتردد في وصف الخطة بأنها "وهم خطير".
وأكد أن الموقع المقترح يفتقر إلى أي بنية تحتية، ما يجعله عاجزًا عن توفير الخدمات الأساسية من ماء وكهرباء، فضلًا عن استحالة تشغيله في ظل ظروف الحرب.
وقال ميلشتاين: "نحن نعيش في واقع من الأوهام، حيث يتم تجاهل الثمن الباهظ لإعادة احتلال غزة من جديد، سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي أو الأمني". وأضاف أن فرضية بقاء مئات آلاف الفلسطينيين داخل منطقة محاصرة ستزيد من فرص الانفجار الداخلي في المجتمع الإسرائيلي ذاته، خصوصًا إذا تبيّن أن الهدف الحقيقي هو إعادة فرض السيطرة المباشرة على غزة.
*رسائل تحذيرية*
في السياق ذاته، وجّه 16 خبيرًا في القانون الدولي داخل إسرائيل رسالة تحذيرية إلى وزير الدفاع ورئيس الأركان، جاء فيها أن الخطة تمثل انتهاكًا واضحًا لاتفاقيات جنيف، وقد تُستخدم كدليل في المحاكمات الدولية لاحقًا.
في ظل كل هذه التحذيرات، يتسائل مراقبون هل هي بالفعل "مدينة إنسانية"، أم أنها مجرد فصل تمهيدي لعملية تطهير ديمغرافي ممنهج، ففي الوقت الذي لا يزال فيه القطاع يتلقى الضربات الجوية بلا هوادة منذ 7 أكتوبر 2023، وأسفر العدوان عن مقتل وإصابة أكثر من 196 ألف فلسطيني، معظمهم من النساء والأطفال، يبدو أن المشروع ليس إلا امتدادًا لسياسة الحصار والاقتلاع.