وسط فراغ أمني.. لماذا تٌعيد خلايا داعش تمركزها في دير الزور؟
وسط فراغ أمني.. لماذا تٌعيد خلايا داعش تمركزها في دير الزور؟

فيما كانت الأنظار مركزة على شمال سوريا حيث نفوذ قوات سوريا الديمقراطية والتحالف الدولي، تسللت فلول تنظيم "داعش" إلى الجنوب الشرقي، في محافظة دير الزور الحدودية، لتعيد رسم خارطة تهديداتها بصمت ودماء، ثلاث هجمات متزامنة في أقل من 24 ساعة، كلها استهدفت عناصر "قسد" ومواقعها، لم تكن مجرد عمليات متفرقة بل مؤشرًا على تصاعد غير مسبوق في تحركات التنظيم داخل منطقة كانت تعتبر حتى وقت قريب شبه مستقرة.
هذا التصعيد يعكس ما يبدو أنه تحول استراتيجي من قبل بقايا التنظيم نحو العمق الصحراوي والمناطق الحدودية مع العراق، مستفيدًا من التضاريس الوعرة والفراغ الأمني الذي تعاني منه مناطق "الإدارة الذاتية"، في المقابل، كثفت واشنطن و"قسد" من تدريباتهما المشتركة، في محاولة لاحتواء الخطر المتجدد، فهل نحن أمام عودة جديدة لداعش ولكن بأدوات تكتيكية مختلفة، أم أنها مجرد ارتجاجات أخيرة لكيان هُزم رسميًا قبل ستة أعوام؟
تصعيد ثلاثي
تعود محافظة دير الزور إلى الواجهة مجددًا، ليس كمنطقة تماس عسكري تقليدية، بل كمركز محتمل لنشاط متزايد لتنظيم داعش، في مؤشر يثير القلق لدى القوى المحلية والدولية العاملة في شمال وشرق سوريا.
ففي أقل من يوم واحد، سجّل مراقبون ميدانيون ثلاث عمليات متفرقة استهدفت مواقع وعناصر قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، في مناطق متباعدة من دير الزور والرقة، ما يشير إلى تنسيق داخلي ومرونة عملياتية لدى التنظيم.
بحسب "المرصد السوري لحقوق الإنسان"، فقد أصيب عنصر من قوى الأمن الداخلي برصاص أطلقه مسلحون يُشتبه في انتمائهم لداعش في قرية حوائج البومصعة، غرب دير الزور.
تزامنًا، شهدت بلدة الكرامة في ريف الرقة استهدافًا مباشرًا لعربة عسكرية تابعة لقسد، أسفر عن إصابة أحد أفرادها، بينما جرت حملة اعتقالات طالت أربعة مشتبه بهم، الحادثان جاءا بعد عملية مشابهة، ما يجعل هذا التصعيد الثلاثي خلال 24 ساعة، ملفتًا من حيث التوقيت والمنهج.
الأرقام لا تكذب
منذ مطلع عام 2025، وثّق المرصد السوري 143 عملية نفذها تنظيم داعش في مناطق "الإدارة الذاتية"، لكن دير الزور حازت الحصة الأكبر بمعدل 121 هجومًا، أسفر عن مقتل 28 عنصرًا من قسد وحلفائها، إلى جانب 10 مدنيين و3 من عناصر التنظيم أنفسهم.
الرقة التي كانت يومًا عاصمة التنظيم، سجلت 10 هجمات فقط، بينما شهدت الحسكة 12 عملية، لكن بدلالة جغرافية مختلفة، وهو ما يضع دير الزور اليوم في قلب الخطر الجديد.
وبينما تعلن الإدارة الذاتية والتحالف الدولي السيطرة على الوضع، فإن هذا التوزيع الجغرافي للعمليات يوحي بأن التنظيم يعيد ترتيب صفوفه وفق أولويات تكتيكية جديدة، مستفيدًا من الانكشاف الأمني والنزاعات المحلية بين العشائر وقسد.
محاولة استباقية
لمواجهة هذا التصعيد، أجرت القوات الأمريكية تدريبات عسكرية ليلية في قاعدة قسرك شمال الحسكة، باستخدام أسلحة ثقيلة وذخيرة حية، بالتعاون مع قوات سوريا الديمقراطية.
التدريبات هدفت إلى رفع الجاهزية القتالية وتحسين التنسيق بين الطرفين، وجاءت بعد 72 ساعة فقط من تدريبات مماثلة في الموقع ذاته.
هذه التحركات العسكرية تعكس إدراكًا واضحًا لخطورة التهديد المتصاعد، خصوصًا في ظل تزايد العمليات الانتحارية والكمائن التي تعتمد على أسلوب الكر والفر، وهو النهج الذي اعتمد عليه داعش خلال مراحل تمدده الأولى في 2014 و2015.
ما وراء التصعيد
من جانبهم، يرى مراقبون، أن الانكفاء الأمريكي عن بعض المواقع، والاشتباكات المتكررة بين قسد والعشائر العربية في ريف دير الزور، يوفّر بيئة حاضنة لنشاط التنظيم، ولو جزئيًا.
كما أن الحدود المفتوحة نسبيًا مع العراق، رغم وجود قوات الحشد الشعبي هناك، تسمح بنقل الإمداد والتنسيق عبر الصحراء الممتدة.
من جهة أخرى، يبدو أن التنظيم يعمل على استقطاب مجندين جدد من السكان المحليين المتضررين من الضغوط الاقتصادية والتهميش السياسي، ما يجعله أكثر قدرة على التكيّف مع الواقع الجديد، حتى لو كانت إمكانياته اللوجستية محدودة مقارنة بسنوات ذروته.
عودة العمليات بهذه الوتيرة في دير الزور تحديدًا تحمل رسائل مزدوجة: الأولى داخلية، تستهدف إظهار أن التنظيم ما يزال قادرًا على ضرب "العدو الكردي" في عمقه الأمني، والثانية خارجية، موجهة للتحالف الدولي مفادها أن الانسحاب أو التراخي في الحسم سيكلف المنطقة ثمنًا باهظًا.
الفوضى والفراغ
يقول الكاتب عبد الرحمن ربوع، المحلل السياسي السوري، إن التصعيد الأخير في دير الزور لا يمكن فصله عن التحولات الجيوسياسية الإقليمية، لاسيما تراجع أولويات الملف السوري دوليًا، وغياب استراتيجية واضحة لإعادة الإعمار أو دمج المجتمعات المحلية بشكل سريع.
وأشار في حديثه لـ"العرب مباشر"، أن داعش لطالما استثمر في الفوضى والفراغ الأمني، مضيفًا، مع تراجع الدعم الدولي لقسد، ووجود حالة من النفور الشعبي لدى بعض المكونات العشائرية، فإن التنظيم يعيد تقديم نفسه كبديل ثأري أو قوة ردع محلية، ولو مؤقتة.
ويرى ربوع، أن إعادة الانتشار الأمريكي في بعض القواعد لا يعني بالضرورة العودة لمرحلة المواجهة الشاملة كما حدث بين 2016 و2019، لكنه يعكس إدراكًا حذرًا لاحتمال انهيار الاستقرار الهش في شرق سوريا.
ويختم المحلل السياسي السوري بالقول: لن يعود داعش إلى شكل الخلافة كما عرفناه، لكنه قد يتحول إلى تنظيم عصابي متمرس في حرب العصابات والكمائن، تمامًا كما فعل في العراق قبل أكثر من عقد، وهذا ما يتطلب تغييرًا جوهريًا في مقاربة التعامل معه، تتجاوز البعد الأمني إلى حلول سياسية واقتصادية شاملة.