جنوب العراق يُعيد هندسة التصدير: مشروع نفطي بطموحات إقليمية
جنوب العراق يُعيد هندسة التصدير: مشروع نفطي بطموحات إقليمية

في ظل تصاعد التنافس على أسواق الطاقة وتنامي الحاجة العالمية إلى مصادر مستقرة للنفط، تتحرك بغداد لتعزيز حضورها التصديري من خلال مشروع طموح في جنوب البلاد، يترجم طموحات العراق في أن يصبح لاعبًا أكثر ثباتًا في سوق النفط العالمي. المشروع الجديد، الذي يتمثل في مدّ أنبوب بحري ثالث يمتد من اليابسة العراقية إلى عمق الخليج، ليس مجرد بنية تحتية إضافية، بل يمثل تحوّلاً استراتيجيًا في إدارة تدفقات النفط الخام وتجاوز نقاط الاختناق التي لطالما شكلت تحديًا للبنية التحتية القديمة. الشراكة التقنية بين شركتين إيطالية وتركية، تحت إشراف استشاري ياباني، تعكس توازنات دقيقة بين التنافس الدولي والثقة في القدرات الفنية الأجنبية، ووسط تعقيدات الإقليم وسعي العراق لتحسين بيئة التصدير جنوبًا بعيدًا عن المخاطر الجيوسياسية، تأتي هذه الخطوة لتعيد تشكيل خارطة خطوط النفط العراقي نحو الأسواق العالمية.
مشروع ضخم
شرعت وزارة النفط العراقية في تنفيذ مشروع ضخم يهدف إلى رفع القدرة التصديرية للنفط الخام من موانئ الجنوب، عبر إنشاء أنبوب بحري ثالث، صُمم ليكون ركيزة استراتيجية في تطوير البنية التحتية النفطية للبلاد.
المشروع، الذي ينفذه ائتلاف بين شركتي "مايكوبيري" الإيطالية و"إيستا" التركية، يطمح لتعزيز مرونة صادرات النفط العراقية، وتقليل الاعتماد على المسارات التقليدية المهددة بعوامل سياسية وأمنية متغيرة.
ويمتد الأنبوب الجديد بطول 70 كيلومترًا، منها 61 كيلومترًا داخل مياه الخليج العربي و9 كيلومترات على اليابسة، بقطر يبلغ 48 عقدة، ما يعزز قدرته على نقل ما يصل إلى 2.4 مليون برميل يوميًا.
بحسب باسم عبدالكريم، مدير عام شركة نفط البصرة، فإن هذا المشروع يُعدّ نقلة نوعية، إذ يربط بين ثلاث منصات بحرية رئيسية؛ الأولى قريبة من ميناء البصرة النفطي، والثانية قرب خور العمية، والثالثة منصة تصدير متقدمة من نوع SPM-4، وهي تقنيات متطورة تتيح تحميل النفط مباشرة على الناقلات العملاقة في عرض البحر، بما يقلل زمن الإرساء والتفريغ.
ويشمل المشروع مكونات تكميلية حيوية، من بينها كابل بحري متطور يتضمن منظومات اتصالات وتحكم كهربائي متكاملة، بما يضمن مراقبة تدفق النفط والسيطرة على التشغيل من منصات التحكم المركزية في البر. هذه الإضافات التقنية ترفع مستوى الأمان الصناعي، وتوفر مرونة عالية في إدارة الحمولات والصيانة، ما ينعكس بشكل مباشر على استقرار الصادرات وتفادي الانقطاعات المفاجئة.
جهود بغداد
عملية اختيار التحالف المنفذ خضعت لتقييم دقيق من بين أربع شركات مؤهلة، تم خلالها فحص المعايير الفنية والتجارية والمالية، تحت إشراف استشاري ياباني معتمد يمتلك خبرة طويلة في مشروعات الطاقة البحرية، وهو ما يؤكد حرص بغداد على التوازن بين الكفاءة الهندسية والشفافية التعاقدية.
وتُقدّر مدة تنفيذ المشروع بسنتين، على أن تبدأ المرحلة الأولى للتشغيل التجريبي من مقطع البصرة خلال 8 إلى 9 أشهر، وهي فترة مدمجة ضمن الجدول التنفيذي الكامل. ويرى خبراء في قطاع الطاقة أن هذه الخطوة ستخفف من الضغط على المنافذ الحالية، وتقلل من تأثير العوامل السياسية الإقليمية، لاسيما في ظل استمرار التهديدات التي تواجه بعض خطوط الأنابيب عبر الشمال.
خطة أوسع
يأتي هذا المشروع في لحظة حساسة بالنسبة للعراق، الذي يحاول إعادة تموضعه كقوة نفطية مرنة وسط اضطرابات الأسواق العالمية. فبينما تتصارع الدول الكبرى على تثبيت نفوذها في سلاسل التوريد العالمية، يسعى العراق لتأمين منافذه البحرية، وتوسيع نطاق التصدير دون الاعتماد على خطوط تمر عبر أراضٍ متنازع عليها أو تخضع لضغوط إقليمية.
كما يندرج المشروع ضمن خطة أوسع لتحديث البنية التحتية لمنظومة التصدير من الجنوب، تشمل تطوير أرصفة التحميل وبناء مخازن جديدة، وهي مشاريع متزامنة تهدف إلى رفع الطاقة التصديرية للعراق تدريجيًا إلى أكثر من 4.5 مليون برميل يوميًا خلال السنوات المقبلة.
وتمثل هذه الخطوة أيضًا تطورًا مهمًا في التعاون الاقتصادي الإقليمي، إذ يشارك فيها شركاء من أوروبا وآسيا الصغرى، وهو ما قد يفتح المجال لمزيد من الشراكات الدولية في مشاريع النفط المستقبلية. ويعكس ذلك رغبة العراق في توسيع قاعدته الاستثمارية، وإرسال رسالة ثقة للأسواق والمستثمرين بأن بيئة الأعمال في قطاع النفط تشهد تحسنًا تدريجيًا.