سماء السودان تشتعل.. حرب المسيّرات تفتح فصلًا جديدًا من الصراع بين الجيش والدعم السريع
سماء السودان تشتعل.. حرب المسيّرات تفتح فصلًا جديدًا من الصراع بين الجيش والدعم السريع

في مشهد بات مألوفًا في سماء السودان، تتناوب المسيّرات بين ضربٍ وردٍّ مضاد، لتتحول المعركة من الميدان إلى الهواء. ما جرى خلال يومي الثلاثاء والأربعاء في الخرطوم وأم درمان ونيالا لم يكن مجرد اشتباك عابر، بل تطوّر نوعي في حربٍ تُدار بالتكنولوجيا أكثر مما تُدار بالبندقية.
القصف المتبادل بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، عبر أسراب من الطائرات المسيرة الانتحارية، يكشف عن سباق محموم للسيطرة الجوية في نزاعٍ داخلي تجاوز حدوده التقليدية، من قاعدة وادي سيدنا إلى سماء نيالا، تتوالى الانفجارات، فيما تُبقي الأطراف المتحاربة خطابها الإعلامي غامضًا ومحملاً بالاتهامات.
وبينما يحتدم القتال فوق رؤوس المدنيين، تتسع رقعة الدمار والخوف، في حربٍ تبدو وكأنها تختبر قدرة السودان على النجاة من سمائه قبل أرضه.
عملية جوية كبرى
تتصاعد حرب المسيّرات في السودان بوتيرةٍ غير مسبوقة، لتكشف عن مرحلة جديدة في الصراع بين الجيش وقوات الدعم السريع، حيث باتت التكنولوجيا العسكرية عاملاً حاسمًا في موازين القوة.
فجر الأربعاء، استيقظت أم درمان على دوي انفجاراتٍ هزّت شمال المدينة، شهود عيان تحدثوا عن سرب من المسيّرات الانتحارية هاجم مواقع عسكرية يعتقد أنها تابعة للجيش في منطقتي وادي سيدنا وسركاب، بينما تصدت الدفاعات الجوية بنيرانٍ كثيفةٍ شوهدت من مسافاتٍ بعيدة.
الجيش أعلن لاحقًا إسقاط ثماني مسيّرات من أصل عشر كانت تحلّق في الأجواء، فيما لم يصدر تأكيد رسمي من قوات الدعم السريع، التي اكتفت بتداول مقاطع مصوّرة تظهر ما وصفته بـ"نجاح العملية الجوية الكبرى" ضد مواقع الجيش.
الهجوم الذي وقع فجرًا جاء بعد يومٍ واحد فقط من غاراتٍ شنها الجيش على مواقع في نيالا، عاصمة الحكومة الموازية التي أعلنتها قوات الدعم السريع في غرب البلاد.
مصادر محلية في نيالا أكدت أنّ طائرات من طراز "بيرقدار" استهدفت تجمعات للدعم السريع داخل المدينة؛ ما أسفر عن سقوط قتلى وجرحى، بينهم مدنيون.
تصعيد عسكري
لم يكن ذلك سوى امتدادٍ لسلسلة طويلة من الهجمات المتبادلة بطائرات دون طيار، بدأت منذ سبتمبر الماضي عندما تبنّت قوات الدعم السريع هجمات على قاعدة وادي سيدنا الجوية، ومصفاة الجيلي النفطية، ومصنع اليرموك الحربي في الخرطوم.
تلك العمليات، التي استخدمت فيها طائرات صينية الصنع من طرازات FH-95 وCH-95، مثلت تحوّلاً استراتيجيًا في قدرات الدعم السريع، التي باتت تمتلك وحدات تشغيل وإطلاق متطورة في دارفور وكردفان، وفق تقارير لمراكز أبحاث دولية.
في المقابل، يواصل الجيش تطوير منظومات دفاعه الجوي، معتمداً على رادارات روسية الصنع وأنظمة اعتراض محلية، إلا أن التفوق في المدى والسرعة ما يزال يميل لصالح المسيّرات الانتحارية التي تستخدمها قوات الدعم السريع.
مصادر عسكرية تحدثت عن "حرب عقول" تُدار في الخفاء، تتضمن عمليات تشويش إلكتروني واختراق شبكات الاتصالات العسكرية، وهي تكتيكاتٌ جديدة على ساحة الحرب السودانية.
معاناة المدنيين
المدنيون، كالعادة، هم الخاسر الأكبر. فمع كل تصعيدٍ جوي، تتساقط الشظايا على الأحياء السكنية، وتتعطل إمدادات الكهرباء والمياه، ويُغلق المجال الجوي جزئيًا خوفًا من سقوط المسيرات خارج نطاق السيطرة.
في مدينة الدبة بالولاية الشمالية، مثلاً، استهدفت مسيّرات انتحارية كلية الهندسة التي يتخذها الجيش مقراً لقوةٍ مشتركة؛ ما أدى إلى مقتل خمسة أشخاص على الأقل وإصابة عددٍ من المدنيين، في حين أدت ضربات أخرى في كادوقلي وعد بابكر شرق الخرطوم إلى خسائر بشرية ومادية.
ورغم الضغوط الدولية المتزايدة، يبدو الطرفان مصممين على مواصلة المعركة الجوية. فالدعم السريع يعتبرها "ردًا عادلاً" على الغارات التي تطال نيالا والفاشر، بينما يرى الجيش أن الهجمات على قواعده تهدف إلى "إرباك القيادة العسكرية ورفع معنويات قواتٍ فقدت مواقعها على الأرض".
الأخطر أن استخدام المسيّرات في العمق السوداني يهدد بتحويل المدن الكبرى إلى ميادين حربٍ مفتوحة، مع تلاشي الفواصل بين الجبهات العسكرية والمناطق المدنية.
صورةٌ التقطتها الأقمار الصناعية في مايو الماضي أظهرت منصات إطلاق بعيدة المدى قرب مطار نيالا، ما يشير إلى أن الدعم السريع يخطط لحربٍ طويلة الأمد، قوامها الضربات الجوية والشلل اللوجستي للجيش.
منعطف خطير
من جانبه، يرى المحلل السياسي السوداني محمد المختار، أن تصاعد حرب المسيّرات بين الجيش وقوات الدعم السريع يمثل منعطفًا خطيرًا في مسار الصراع، ليس فقط لأنها تعكس انتقال الحرب إلى مستوى تقني أكثر تعقيدًا، بل لأنها تؤشر إلى دخول أطراف إقليمية غير معلنة على خط النزاع عبر دعم غير مباشر بمنظومات الطائرات بدون طيار.
ويقول المختار في حديثه لـ"العرب مباشر": إن ما يجري اليوم هو بداية سباق تسلح جوي منخفض الكلفة بين الطرفين، قد يعادل ميزان القوى على الأرض ويطيل أمد الحرب لسنوات.
فالمسيّرات تمنح القدرة على الضرب من مسافات بعيدة دون خسائر بشرية مباشرة، ما يشجع على التصعيد بدلاً من التفاوض.
ويحذر المختار من أن تحول المدن الكبرى إلى أهداف للمسيّرات يعمّق الكارثة الإنسانية، إذ أصبحت البنية التحتية المدنية في مرمى النار، بما في ذلك محطات الكهرباء والوقود والمطارات والمستودعات الحيوية.
ويضيف: "إذا استمر الوضع على هذا النحو، فإن السودان يتجه نحو نموذج مشابه لما حدث في ليبيا واليمن، حيث غابت الدولة وتحولت السماء إلى ساحة حرب مستمرة".
ويختم المختار بالقول: إن "الحل العسكري أصبح وهمًا، وكلما تطورت الحرب تكنولوجيًا، أصبح الوصول إلى تسوية سياسية أكثر تعقيدًا وأعلى كلفة".