تونس... مَن سيقرأ البيان الأول؟
أثار خطاب الرئيس التونسي قيس سعيد التساؤلات حول مصير حركة النهضة التونسية
انقلاب، كلمةٌ صارت تتردَّد بين السياسيين والإعلاميين. خطاب الرئيس قيس سعيد بمناسبة يوم الأمن، الذي أعلن فيه أنَّه القائد العام للقوات المسلحة العسكرية والمدنية، وأنَّه لن يتساهل مع الفاسدين الذين يستقوون بالمصاهرة والمحسوبية. اشتعلت ردود الفعل من أكثر من طرف، وتسابق السياسيون ووسائل الإعلام المختلفة على تحليل وتفسير ما قصده الرئيس، وعمَّا يهدف إليه.
المبارز الأول للرئيس كان حركة النهضة التي قرأت ما أدلى به بعيونٍ خاصة، وقالت إنَّه يريد أن يعيد البلاد إلى الحكم الرئاسي الفردي. تصاعدت التصريحات، واتسعت معها شقة الانقسامات، واندفع إلى ساحتها مجمل الطيف السياسي والنقابي. حزب النهضة دخل المعركة بصوت عالٍ وكلام مباشر وصريح، والعنوان هو انقلاب الرئيس على كل مؤسسات الدولة. رفيق عبد السلام أحد أبرز قيادات حزب النهضة ووزير الخارجية الأسبق وصهر راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة تقدَّم رتل المواجهة للرئيس قيس سعيد. صرح رفيق عبد السلام، وقال إنَّ الرئيس قيس سعيد يريد تنصيب نفسه الخصم والحكم والقائد الأوحد، ويريد احتكار الدستور، وإنَّ مشكلة الرئيس ليست مع حزب النهضة فقط، ولكن مع كل المنظومة السياسية؛ فهو يريد نظاماً من دون برلمان ومن دون أحزاب، ويكون هو الحاكم الأوحد.
لم يقف الرئيس عند ما أعلنه يوم عيد جهاز الأمن، ولكنه رفع سقف التحدي، أول مايو (أيار)، عندما زار الجنود المرابطين بجبل الشعانبي، وتناول معهم الإفطار، وخطب فيهم قائلاً: «جئت إلى هذا المكان لأننا لا نقابل التحدي إلا بالتحدي، وبالانتصار مهما كان، وعزيمتكم ستنكسر عليها كل محاولات ضرب الدولة التونسية».
وأضاف: «نحن لا نخاف الإرهاب، ولا نخاف الموت، ورؤوسنا مرفوعة، ونحن لا نخاف هؤلاء الذين يتحركون تحت جنح الظلام. جئت للإفطار معكم لأنني أعتبر نفسي جندياً من جنود تونس، وسنقاتل وننتصر، والروح الانتصارية للقوات العسكرية والأمنية روح تقوم إما على الانتصار أو الشهادة». وأضاف الرئيس قيس سعيد في خطابه أمام الجنود: «سنتصدى لمن يختفون بالجبال، ولمن يزودهم بالمؤنة والمعلومات، وهناك رئيس واحد للقوات المسلحة العسكرية والمدنية، ومَن يفكر أنه سيفكك الدولة سيصطدم بنفس العزيمة».
وقال: «الخطر الحقيقي على الدولة ليس الإرهاب، بل مَن يحاول تقسيم الدولة».
هذا الخطاب فسره المعارضون للرئيس بأنه إعلان صريح للإعداد لانقلاب مقبل، وأضافوه إلى مقولته: «اليوم صبر، وغداً أمر». صوت آخر أعلن الاستعداد للانقلاب، ورأى أنه الحل الوحيد لما تعانيه تونس من أزمات وانسداد سياسي، حيث صرح الأميرال كمال العكروت المستشار الأمني للرئيس الراحل الباجي قايد السبسي بالقول إنَّ الوضع العام في تونس على حافة الانهيار على مختلف الأصعدة، في ظل غياب لأي أفق نتيجة منظومة سياسية عقيمة لا تفرز إلا عدم الاستقرار، وقال إنه بدأ يعمل مع مَن وصفهم بالخيرين من سيدات ورجال وشباب هذا الوطن الحالمين بالإنقاذ ووقف نزف الأزمة، وإعادة تونس إلى مكانها الطبيعي... «لقد حان وقت التقييم بسبب منظومة سياسية فاشلة سرقت أحلام الشعب، وبدأتُ أعمل مع الخيرين». ولم تقتصر لغة الوعيد على الرئيس، بل تنادى السياسيون والنقابيون، وساهموا في رفع سقف المواجهة، وكان أبرزهم نور الدين الطبوبي الأمين العام للاتحاد التونسي للشغل، في كلمته بمناسبة عيد العمال، حيث هاجم الجميع: رئيس الدولة قيس سعيد، ورئيس الحكومة هشام المشيشي، ورئيس مجلس النواب راشد الغنوشي، ورئيسة الحزب الدستوري الحر عبير موسي، وحمّلهم جميعاً ما وصلت إليه البلاد من تردّ وانهيار، وحمّل رئيس الجمهورية عدم تجاوبه مع مبادرته بتنظيم حوار وطني يشارك فيه جميع الأطراف. سياسيون ومحللون وصفوا بيان نور الدين الطبوبي بأنه بيان أول. مع كل ساعة تمضي تزداد الأصوات ارتفاعاً وحرارة، ويرتفع ركام الخلاف ليسد كل طرق الانفراج والتلاقي. هل تنتظر تونس بياناً أول ومن أي قوة أو شخصية. الوضع في تونس يزداد صعوبة وتعقيداً.
الأزمة الصحية وتفشي وباء «كورونا» ضاعف الارتباك الاقتصادي، والحصول على قرض من صندوق النقد الدولي ليس بالأمر الهين. الاحتقان السياسي بلغ حد التشرذم الذي يؤججه الصدام الشامل؛ فالجميع ضد الجميع، فهل هيمنت قاعدة المغالبة، وغابت قواعد السياسة التي تقوم على التفاهمات والتسويات والتنازلات؟ دعاوى عضو مجلس النواب الخياري التي قال فيها إن الرئيس قيس سعيد تسلم أموالاً من المخابرات الأميركية ما زالت موجاتها تتحرك في بحيرة الصراع التونسي. سيف الدين مخلوف زعيم ائتلاف الكرامة قال إنَّ شخصاً فلسطينياً من الجبهة الشعبية - القيادة العامة اتصل به من ماليزيا، وأبلغه عما سماه أسراراً حول ما يجري في تونس، وحدّثه عما أدلى به راشد الخياري حول الرئيس.
مخلوف شكك في حقيقة المتصل، لكنَّه أضاف أنَّ الفلسطيني أبلغه عن أشياء حدثت فعلاً فيما بعد. يبدو أنَّ اللعبة السياسية النارية في تونس لن تجد الماء الذي يطفئ لهيبها، وكلمة الانقلاب صار لها لسان لا يصمت.
المحلل فتحي الجاموسي وصف بيان نور الدين الطبوبي أمين عام الاتحاد التونسي للشغل بأنه أوامر يطلب تنفيذها، وأصدر البيان الأول قبل أن يسبقه إليه أحد، وقفز من سفينة كان شريكاً فيها قبل أن تغرق. يوسف الشاهد رئيس الوزراء الأسبق وزعيم حزب «تحيا تونس» المشارك في الحكومة قال إن الوضع السياسي خطير جداً؛ فالبرلمان معطّل، والحكومة لا تعرف وضعها، ولا توجد حلول قانونية أو دستورية، ولا يوجد أمل قريب في تشكيل المحكمة الدستورية، والحوار غائب والأطر السياسية ترفض الجلوس معاً، والأزمتان الصحية والمالية تخنقان البلاد، ولا توجد حلول لهذا الوضع المرتبك.
نكرر السؤال مرة أخرى وهو: هل أغلقت كل الأبواب أمام إيجاد مخرج سياسي لما تعيشه تونس؟ أعتقد أن الإجابة ليست أقل صعوبة من الحالة في تونس. غياب الثقة بين الأطراف السياسية الفاعلة يزداد كل يوم.
زيارة الرئيس قيس سعيد إلى القاهرة أضافت إلى الخصومة بينه وبين حزب النهضة الذي عبّر علناً عن معارضته لها، وقرأها بعين الشك، وهاجم أحد رموزه السابقة، عبد الفتاح مورو، بسبب تعليقه الإيجابي عليها.
والسيدة عبير موسي التي قادت مظاهرة بالسيارات جابت شوارع العاصمة وجّهت لها تهمة الفساد بتلقيها أموالاً من الرئيس السابق زين العابدين بن علي، والهجوم الإعلامي على السيدة سامية عبو زعيمة التيار الديمقراطي بتصريحها حول اتفاقية باردو التي قامت فرنسا بموجبها بفرض الحماية على تونس سنة 1881.
وتصريحات نجيب الشابي رئيس الهيئة السياسية لحركة أمل الذي قال إن الرئيس قيس سعيد مثل معمر القذافي؛ فهو يؤمن بمقولاته التي جاء فيها: «من تحزب خان»، و«التمثيل تدجيل»، و«الحزبية إجهاض للديمقراطية». تونس تنتظر بيانات عديدة، ونأمل أن يكون بينها بيان وطني يصدر من قاعة الاتفاق السياسي الذي يضم كل الأطراف السياسية والاجتماعية والنقابية الفاعلة، وليس من ميكرفون وراءه صوت مجهول أو معلوم.
نقلاً عن صحيفة الشرق الأوسط