الخبز أغلى من الحياة.. شاحنات الغذاء في غزة تتحول إلى نعش جماعي.. ما القصة؟
الخبز أغلى من الحياة.. شاحنات الغذاء في غزة تتحول إلى نعش جماعي.. ما القصة؟

في غزة، حيث يختلط الخبز بدم الضحايا لم تعد المساعدات الغذائية طوق نجاة، بل أصبحت أحيانًا وسيلة موت إضافية، مشهد مأساوي جديد سُجل في مدينة دير البلح، حيث تحوّلت شاحنة مساعدات إلى آلة قتل بعدما انقلبت فوق عشرات المدنيين الباحثين عن ما يسدّ رمق الجوع، هذه المأساة لم تكن الأولى، لكنها تأتي في سياق متكرر يعكس عمق الانهيار الإنساني وتآكل كل معايير الأمان في مناطق محاصرة ومجوعة عمدًا.
أصابع الاتهام سرعان ما توجهت إلى الجيش الإسرائيلي، في ظل اتهامات بتعمد خلق بيئة فوضوية تمنع توزيع المساعدات بشكل آمن، وفي الخلفية، تواصل المنظمات الأممية دق ناقوس الخطر من مجاعة جماعية وشيكة، بينما يبقى العالم متفرجًا على مشهد تراجيدي لا تكفي الكلمات لوصفه، فما الذي حدث بالضبط، ولماذا يتحول كل يوم توزيع المساعدات في غزة إلى مقامرة بالحياة؟
*أصابع الاتهام*
في لحظة واحدة، تحوّل الأمل بالغذاء إلى فاجعة، في مدينة دير البلح وسط قطاع غزة، لقي عشرون فلسطينيًا مصرعهم وأصيب العشرات بجروح متفاوتة، بعدما انقلبت شاحنة مساعدات غذائية فوق حشود من المدنيين كانوا ينتظرون دورهم في الحصول على ما يسدّ جوعهم.
الحادث، الذي وقع في ساعة متأخرة من مساء الثلاثاء- الأربعاء، هزّ الرأي العام المحلي والدولي، وأثار تساؤلات حادة حول شروط إدخال وتوزيع المساعدات في القطاع المحاصر.
وبحسب ما أفادت به مصادر طبية ومكتب الإعلام الحكومي في غزة، فإن الشاحنة كانت تسلك طريقًا غير مهيأ لعبور المركبات الثقيلة، في منطقة سبق أن تعرضت للقصف الإسرائيلي المكثف، ما أدى إلى انهيارها وسط الزحام، وسط صرخات الجوعى والمكلومين.
السلطات المحلية وجهت أصابع الاتهام مباشرة إلى إسرائيل، معتبرة أن الحادث ليس مجرد نتيجة عرضية، بل تجسيد صارخ لسياسة "التجويع الممنهج"، على حد وصفها.
وجاء في بيان رسمي للمكتب الإعلامي الحكومي، أن الجيش الإسرائيلي أرغم الشاحنة على سلوك مسارات غير آمنة، دون توفير ممرات إنسانية أو ضمانات للسلامة، ما تسبب في وقوع الكارثة.
كما أشار البيان، أن إسرائيل "تتعمد نشر الفوضى في عمليات توزيع المساعدات، من خلال منع التنظيم والتنسيق المسبق؛ ما يؤدي إلى تدافع السكان حول الشاحنات في ظروف تشبه ساحة معركة لا ميدان إغاثة"، وأضاف: "ما حدث في دير البلح هو نتيجة مباشرة لهذا النهج الخطير، الذي يحوّل حتى المساعدات إلى سلاح آخر في يد الاحتلال".
*القاتل الجديد*
الحادث ليس الأول من نوعه، إذ شهدت مناطق متفرقة من القطاع، خلال الأشهر الأخيرة، حوادث مماثلة ذهب ضحيتها مئات المدنيين، بعضهم قُتل برصاص الجيش الإسرائيلي أثناء محاولته الوصول إلى المساعدات، وآخرون قضوا دهسًا أو نتيجة الفوضى الناتجة عن غياب التوزيع المنظم.
في السياق نفسه، حذّرت منظمات دولية، وعلى رأسها وكالة "أونروا"، من أن القطاع يواجه خطر المجاعة الجماعية، وقال المفوض العام للوكالة فيليب لازاريني: إن "الجوع بات القاتل الجديد في غزة"، مؤكدًا أن استمرار الحصار وتقييد إدخال المساعدات يضاعف المأساة الإنسانية.
ودعا لازاريني في منشور على منصة "إكس"، إلى "السماح بتقديم المساعدات بشكل آمن وكريم"، مع تمكين الأمم المتحدة وشركائها من أداء مهامهم دون عراقيل.
وفيما يواجه أكثر من مليوني فلسطيني خطر المجاعة الفعلية، تكتفي معظم القوى الكبرى ببيانات التعبير عن القلق، دون اتخاذ خطوات عملية تضمن فتح المعابر وتوفير ممرات إنسانية مستدامة.
وبحسب الأمم المتحدة، فإن فتحات المعابر الحالية – وإن وجدت – لا تلبّي سوى نسبة محدودة من الاحتياجات، وتُدار بطريقة عشوائية تجعل من كل شحنة تمرّ بمثابة "رهان على الحياة والموت".
وتزداد المعاناة في ظل انهيار البنية التحتية، وغياب الوقود، وتعطّل منظومات التبريد والتوزيع، ما يجعل نقل وتخزين المساعدات تحديًا لوجستيًا وإنسانيًا كبيرًا، خصوصًا في المناطق الشمالية والغربية من القطاع، التي توصف بأنها "مناطق منكوبة بالكامل".
من جهتها، طالبت السلطة الفلسطينية المجتمع الدولي بتحمل مسؤولياته القانونية والأخلاقية، والتحرك الفوري لحماية المدنيين وتوفير ممرات إنسانية حقيقية، محمّلة إسرائيل والولايات المتحدة المسؤولية الكاملة عن تداعيات الحصار، بما في ذلك الحوادث القاتلة المرتبطة بالمساعدات.
*الخبز أغلى من الحياة*
يقول فارس أبو عمرة، شاب في الثلاثين من عمره نجا بأعجوبة من الحادث: "سمعنا أن هناك شاحنة مساعدات وصلت، وكالمعتاد ذهبنا ونحن ندرك اننا قد لا نعود، عندما ظهرت من بعيد، ركض العشرات نحوها.. كنت وسط الزحام، وفجأة سمعت صوت صرير الحديد، الشاحنة فقدت توازنها وسقطت جانبًا، فوقنا مباشرة، لم أعد أسمع سوى الصراخ، فقد صديقي حياته على الفور، وأصبت أنا بكسر في ساقي ليحملني الناس بعيدًا.
وأضاف في حديثه لـ"العرب مباشر": الشاحنة كانت تسير في طريق غير ممهد ومليء بالحفر والركام وبقايا القصف، لا يمكن أن تسير فيه عربة بسيطة يجرها "حمار" فما بالكم بشاحنة تحمل مئات الأطنان، مضيفًا: ما يحدث يجب أن يتوقف، نحن نخوض حرب ضد الجوع وهو يفتك بنا كل يوم بطرق مختلفة.
وتابع أبو عمرة: في كل مرة تصل شاحنة مساعدات، لا يكون هناك أي جهة مسؤولة تنظم التوزيع، يُترك الناس للجوع واليأس، الجميع يركضون، يتدافعون، يسقطون فوق بعضهم. هذه ليست صدفة، بل سياسة تهدف لكسر الناس أكثر مما هم مكسورون، قائلًا: "لقد صار الخبز في غزة أغلى من الحياة".