دير البلح تتهاوى.. إسرائيل تفكك ما تبقى من خريطة غزة الإنسانية

دير البلح تتهاوى.. إسرائيل تفكك ما تبقى من خريطة غزة الإنسانية

دير البلح تتهاوى.. إسرائيل تفكك ما تبقى من خريطة غزة الإنسانية
حرب غزة

في قطاع غزة الذي تحوّل إلى مشهد من الركام والملاجئ المؤقتة، لم تكن دير البلح مجرد نقطة على الخريطة، بل مثّلت في الوعي الجمعي للنازحين والأهالي آخر متنفس للنجاة، وملاذًا هشًا وسط دوامة الحرب، لكن هذا الأمان المؤقت يبدو أنه بات مهددًا، بعدما دفعت الدبابات الإسرائيلية بجنازيرها إلى أطراف المدينة، متقدمة على الأرض التي كانت - حتى وقت قريب- خارج حسابات الاجتياح المباشر. ومع صدور أول أمر إخلاء رسمي لسكان المنطقة، يزداد الحديث عن دير البلح كحلقة جديدة في مسار عسكري يخترق جغرافيا القطاع ويُعيد رسم حدوده بالأمر الواقع، فهل تسعى إسرائيل لفرض معادلة جديدة عبر شق ممر عازل يفصل جنوب غزة عن وسطها، أم أن الهدف الحقيقي يتجاوز الرهائن والمفاوضات، ليطال مستقبل القطاع الإنساني والجغرافي معًا.

دائرة النار


لم يكن اجتياح دير البلح مجرد تحرك عسكري اعتيادي في سلسلة العمليات الإسرائيلية المستمرة منذ أكتوبر 2023، بل حمل معه إشارات عميقة لتحول نوعي في قواعد الاشتباك الجغرافي والإنساني داخل غزة.
 
المدينة التي ظلت حتى وقت قريب تُصنّف ضمن المناطق الأقل استهدافًا، دخلت فجأة في دائرة النار، مع تقدم القوات الإسرائيلية من جهتيها الجنوبية والشرقية، وإصدار أمر رسمي بإخلاء السكان، هو الأول من نوعه في تلك المنطقة الحيوية.

قرار الإخلاء لم يكن مجرد إجراء ميداني، بل أعاد فتح النقاش حول نوايا إسرائيلية تتعلق بإعادة ترسيم خارطة القطاع على الأرض. 

ففي الوقت الذي تدعي فيه تل أبيب أن الهدف من العملية هو الضغط على حماس للإفراج عن الرهائن، ظهرت تقارير إسرائيلية ودولية تشير إلى ما هو أبعد من ذلك.

فقد ذكرت صحيفة "جيروزاليم بوست"، أن خطوة إخلاء المنطقة بين دير البلح والمواصي، قد تهدف لإحداث ضغط تفاوضي.

بينما تحدثت "هآرتس" عن خطة لفصل جنوب غزة – وتحديدًا خان يونس – عن وسط القطاع، عبر ممر عسكري شبيه بما نفذته إسرائيل سابقًا في منطقة موراغ، جنوبًا بين رفح وخان يونس، تلك القراءة تعزّزها المعطيات على الأرض، إذ ترافقت العملية مع تصعيد مكثف للقصف الجوي والمدفعي، وأفاد شهود عيان أن المدينة تعرّضت في الساعات الأخيرة لقصف غير مسبوق، في مؤشر على نية إسرائيلية لاستكمال السيطرة الميدانية وتكريس العزل الجغرافي.

الملاذ الأخير


دير البلح، التي كانت حتى الأمس القريب مقرًا أساسيًا للمنظمات الإنسانية، تُواجه الآن خطر الانهيار الكامل، المنطقة تحتضن ثلاث آبار مياه، ومحطة تحلية تنتج أكثر من 2000 متر مكعب يوميًا، إلى جانب أربع عيادات طبية، ومستودعات إغاثة، ومحطة صرف صحي، كلها توقفت أو أصبحت مهددة بالتوقف، بعد صدور أوامر الإخلاء وتحرك الجبهة العسكرية.

وتشير بيانات أممية، أن ما لا يقل عن 50 إلى 80 ألف مدني يقطنون المدينة، إضافة إلى عشرات الآلاف من النازحين القادمين من مناطق أخرى، معظمهم يقطنون في 57 مخيمًا مؤقتًا.

ومع توسّع المناطق الخاضعة لأوامر التهجير أو اعتبارها مناطق عسكرية مغلقة إلى ما يقرب من 88% من مساحة القطاع، يتبقى للسكان مساحة لا تتجاوز 12% من غزة يعيش فيها 2.1 مليون شخص، في ظروف وصفتها الأمم المتحدة بـ"غير القابلة للاستمرار".

ويزيد من قتامة المشهد تراجع قدرة الوكالات الإنسانية على الوصول إلى المناطق المتضررة، مع تقطع الطرق وتعرض عمال الإغاثة لمخاطر مباشرة.


حياة الرهائن


أما على المستوى السياسي، فإن الاجتياح يضع الحكومة الإسرائيلية أمام معادلة صعبة، ففي حين تصر شخصيات يمينية داخل الائتلاف الحاكم – مثل الوزيرة أوريت ستروك – على أن العملية يجب أن تشمل كل مناطق القطاع، حتى لو كان ذلك على حساب حياة الرهائن، حذر "منتدى عائلات الرهائن" من أن أي استهداف لدير البلح قد يهدد حياة العشرات ممن ما يزال يُعتقد أنهم أحياء.

وقال المنتدى - في بيان-: "لن يغفر الشعب الإسرائيلي لمن يعرّض حياة الرهائن للخطر عمدًا، لا أحد يستطيع الادعاء بعد الآن بأنه لم يكن يعلم".

في الوقت نفسه، تُطرح تساؤلات جدية حول الهدف النهائي من الحملة، وهل تسعى إسرائيل إلى تقليص مناطق التمركز السكاني الفلسطيني، وتفكيك ما تبقى من النسيج العمراني لغزة، أم أنها تراهن على تغيير الواقع الإنساني كوسيلة للضغط في المفاوضات السياسية؟ 
اللافت أن التحرك في دير البلح جاء في وقت تتزايد فيه التصريحات الغربية حول ضرورة التوصل إلى هدنة دائمة، وعودة إدارة المعابر والمساعدات إلى الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية.


خطة ممنهجة


من جانبه، يرى د. ماهر صافي، المحلل السياسي الفلسطيني، أن اجتياح دير البلح يمثّل تحوّلًا استراتيجيًا في أسلوب الحرب الإسرائيلية داخل قطاع غزة، ويتجاوز الهدف المعلن المتعلق بالرهائن.

ويشير في حديثه لـ"العرب مباشر"، أن ما يجري هو جزء من خطة ممنهجة لإعادة تفكيك غزة جغرافيًا وسكانيًا، عبر إنشاء ممرات عسكرية تفصل بين شمال القطاع ووسطه وجنوبه، تمهيدًا لفرض واقع أمني دائم يحدّ من قدرة الفلسطينيين على إعادة التمركز أو إعادة الإعمار.

ويؤكد صافي أن اختيار دير البلح لم يكن عبثيًا، فهي تمثل نقطة تقاطع حيوية بين مختلف مناطق القطاع، وتضم أكبر تركيز للنازحين والمساعدات، وبالتالي فإن إخراجها من المعادلة سيؤدي إلى انهيار البنية الإنسانية المتبقية في غزة.

ويضيف أن تل أبيب تدرك حساسية المدينة، لكنها تراهن على أن حماس لن تضحي بالرهائن في هذه المرحلة، مما يمنح الجيش هامشًا أوسع للمناورة الميدانية.

ويختم صافي بالإشارة، أن ما يجري هو اختبار حاسم لردود الفعل الدولية، خصوصًا أن توسع العمليات في المناطق "الآمنة سابقًا" قد يُفهم كإعلان نية لفرض حل أحادي بالقوة، في ظل انسداد الأفق السياسي للمفاوضات.

ومع ارتفاع عدد الضحايا في غزة إلى أكثر من 59 ألف قتيل منذ اندلاع الحرب، واستمرار العمليات ضمن ما تُسميه إسرائيل بـ"مركبات جدعون"، تبدو المعركة في دير البلح ليس فقط حلقة عسكرية جديدة، بل علامة فارقة في رسم مستقبل ما تبقى من قطاع غزة، بشريًا وجغرافيًا وسياسيًا.