الزحف على دير البلح.. هل تفتح إسرائيل جبهة التقسيم الكامل لغزة؟
الزحف على دير البلح.. هل تفتح إسرائيل جبهة التقسيم الكامل لغزة؟

من ملاذ إنساني إلى ساحة جديدة للترحيل والقصف، تدخل دير البلح، المدينة الغزية التي كانت تُصنَّف سابقًا كمنطقة آمنة، دائرة النار مع تصعيد إسرائيلي مفاجئ.
في خطوة تحمل أبعادًا عسكرية وسياسية معًا، طالبت القوات الإسرائيلية آلاف الفلسطينيين بإخلاء مناطق واسعة جنوب غرب المدينة، تحت ذريعة وجود "أنشطة معادية"، هذا التحول المفاجئ يفتح الباب أمام تساؤلات حول الأهداف الحقيقية، خصوصًا في ظل حديث متصاعد عن محاولة إسرائيل رسم خريطة جديدة للقطاع عبر شق محاور تفصل بين شماله ووسطه وجنوبه، وفي مشهد موازٍ، تتواصل المجازر بحق المدنيين في شمال غزة وجنوبها، حيث قُتل العشرات أثناء بحثهم عن الطعام في ظل مجاعة متفشية، وسط هذه الكارثة، تتصاعد المخاوف من أن تكون عمليات الإخلاء مقدّمة لمخطط أوسع، يهدف إلى تفتيت القطاع إلى جيوب منعزلة، تُخضعها إسرائيل تدريجيًا لحصار مزدوج: عسكري من الخارج وإنساني من الداخل.
التقطيع الجغرافي
في تصعيد ميداني مفاجئ، أعلن الجيش الإسرائيلي عن إطلاق عملية جديدة في جنوب غرب دير البلح، أحد المواقع التي كانت حتى وقت قريب تُصنَّف من قبل إسرائيل كمنطقة آمنة يُنصح المدنيون باللجوء إليها.
ووفقًا لمصادر محلية وشهود عيان، ألقت طائرات إسرائيلية منشورات تطالب السكان، بما فيهم نازحو خيام المواصي، بإخلاء المنطقة فورًا، تمهيدًا لما وصفته بـ"عملية لتدمير البنية التحتية للفصائل المسلحة".
هذا الإعلان، الذي جاء في توقيت حرج تشهده مفاوضات التهدئة المتعثرة، يعيد إلى الواجهة استراتيجية "التقطيع الجغرافي" التي اعتمدتها إسرائيل مرارًا خلال الحرب. فالمنطقة التي يُطلب الآن إخلاؤها تفصل فعليًا بين خان يونس ودير البلح، ما يعزز المخاوف من محاولة إسرائيلية لشق محور عسكري جديد يعزل الجنوب عن الوسط، بعد أن سبق عزل رفح عن خان يونس عبر محور "ماجين عوز" سيئ الصيت.
مربعات محاصرة
وفق مصادر ميدانية، فإن التحرك العسكري في دير البلح لا يبدو معزولًا أو تكتيكيًا، بل جزءًا من خطة أوسع تهدف إلى تقطيع أوصال القطاع إلى "مربعات محاصرة"، تمنع التواصل الجغرافي بين أجزاء غزة، وتحوّل المدنيين إلى كتل سكانية محاصرة، يمكن التحكم فيها أمنيًا وغذائيًا.
وإذا ما تم تنفيذ هذه الخطة، فستصبح غزة بحكم الأمر الواقع مجموعة من الجيوب المنفصلة، يربط بينها قوس من المجاعة والعزلة والخوف.
المثير للقلق، أن هذه العملية تأتي في وقت تتفاقم فيه الكارثة الإنسانية في القطاع. فقد شهد يوم الأحد سقوط أكثر من 70 قتيلًا فلسطينيًا في شمال غربي غزة، حين تجمع المدنيون للحصول على كميات قليلة من الطحين سُمح بدخولها عبر موقع زيكيم العسكري، للمرة الأولى منذ أكثر من أسبوع.
وبينما كانت الأنظار معلقة على الشاحنات الثمانية التي تحمل الغذاء المنتظر، باغتتهم الطائرات المسيرة الإسرائيلية بإطلاق النار والقصف المدفعي؛ ما أدى إلى مذبحة حقيقية، قُتل فيها العشرات، معظمهم من الأطفال والنساء.
عشرات الضحايا
لم تكن تلك الحادثة الوحيدة، ففي مواصي خان يونس، سُجّل مقتل ما لا يقل عن عشرة نازحين بعد قصف خيامهم بطائرات انتحارية مسيّرة.
وأفادت وزارة الصحة في غزة، أن حصيلة الضحايا المدنيين الذين سقطوا أثناء انتظار المساعدات أو في نقاط توزيع الطحين المدعومة أميركيًا، تجاوزت الألف قتيل منذ أواخر مايو، ما يسلط الضوء على استخدام الطعام كسلاح، والمساعدات كفخ دموي.
من جانبها، تقول حماس: إن ما يحدث "ليس فقط مجازر، بل سياسة إبادة ممنهجة تستخدم فيها إسرائيل التجويع والقتل والتنكيل كأدوات تطهير عرقي"، وتدعو إلى تحرك دولي عاجل لوقف الكارثة.
وفي المقابل، تلتزم إسرائيل الصمت حيال هذه الوقائع، في وقت يتصاعد فيه الضغط على حماس لتقديم تنازلات في مفاوضات تُجرى بوساطة قطرية.
تقسيم غزة
اللافت، أن المناطق التي تشملها أوامر الإخلاء تضم واحدة من أهم محطات تحلية المياه في القطاع، والتي تدعمها جهات أوروبية، لكنها توقفت عن العمل منذ أشهر بعد انقطاع الكهرباء عنها بقرار إسرائيلي.
وإذا ما تمّ الاستيلاء على المنطقة، فسيُحرم سكان غزة من مصدر حيوي للمياه في وقت تزداد فيه أعداد الوفيات بسبب الجفاف وسوء التغذية، حيث أعلنت وزارة الصحة عن وفاة 18 فلسطينيًا في يوم واحد جراء الجوع.
مراقبون أكدوا أن ما يجرى في دير البلح، إذًا، ليس مجرد تحرك عسكري محدود، بل يمثل حلقة جديدة في سلسلة خطوات إسرائيلية تهدف إلى تغيير الجغرافيا السياسية للقطاع، عبر السيطرة على نقاط محورية وإجبار المدنيين على النزوح المتكرر، بما يشبه التهجير الصامت، وإذا استمر الحال على ما هو عليه، فإن غزة قد تدخل مرحلة جديدة من الصراع، يكون فيها تقسيمها داخليًا هو الهدف، والمجاعة أداة الضغط الأبرز.
تطهير عرقي
من جانبه، يؤكد اللواء محمد عبد الواحد، الخبير العسكري والاستراتيجي، أن ما تقوم به إسرائيل في دير البلح ليس مجرد تحرك تكتيكي، بل هو جزء من خطة عسكرية أوسع تستهدف تفكيك النسيج الجغرافي والديمغرافي لقطاع غزة بشكل تدريجي ومنهجي.
ويقول: إن شق المحاور الجديدة، وفصل مناطق القطاع عن بعضها، يمثل استراتيجية مدروسة تُعرف عسكريًا بـ"التقسيم المحكم"، وهي تُستخدم عادة في البيئات الحضرية المكتظة لشل قدرة الخصم على المناورة والاتصال والتموين.
ويضيف عبد الواحد لـ"العرب مباشر"، أن تحرك القوات الإسرائيلية نحو جنوب غرب دير البلح يهدف إلى تطويق خان يونس وقطع الامتداد الطبيعي بين الجنوب والوسط، ما يعني تحويل كل منطقة إلى جيب معزول يسهل مراقبته وضبطه ميدانيًا.
ويرى، أن هذا الأسلوب سبق أن استخدمته إسرائيل في جنين خلال الانتفاضات، وها هي تُعيد تطبيقه الآن بغطاء من الذرائع الأمنية.
ويحذر اللواء عبد الواحد من أن هذه السياسة، رغم ما قد تحققه عسكريًا من مكاسب مؤقتة، إلا أنها سترتد على إسرائيل سياسيًا، إذ تعزز الاتهامات الدولية بارتكاب جرائم تهجير وتطهير عرقي، وتزيد من تعقيد أي تسوية سياسية مستقبلية في القطاع.