استعراض حزب الله يعيد شبح الحرب الأهلية ويحرّك المفاوضات مع واشنطن

استعراض حزب الله يعيد شبح الحرب الأهلية ويحرّك المفاوضات مع واشنطن

استعراض حزب الله يعيد شبح الحرب الأهلية ويحرّك المفاوضات مع واشنطن
حزب الله

لم تكن شوارع الحمراء وسط بيروت يومًا ساحةً لعروض عسكرية خارج الدولة منذ انتهاء الحرب الأهلية، حتى جاء مشهد عناصر حزب الله المقنّعين والمدججين بالسلاح ليقلب الصورة رأسًا على عقب، استعراضٌ صاخب، أشبه بتذكير صريح بقدرة الحزب على فرض حضوره الميداني متى شاء، حتى في قلب العاصمة، لكن خلف العرض، يدور ما هو أعمق: نقاش داخلي غير معلن عن مستقبل السلاح، ومفاوضات حساسة مع واشنطن تدور تحت الطاولة، ومحاولة لإعادة التموضع في مرحلة ما بعد الحرب الأخيرة مع إسرائيل. 

وبحسب مصادر مطلعة، يتجه حزب الله نحو مراجعة استراتيجية قد تُفضي إلى تقليص دوره العسكري، دون التخلّي الكامل عن ترسانته، هذا التوازن المعقد بين البقاء كمقاومة وعدم الظهور كميليشيا خارج سلطة الدولة، يعكس مأزقًا لبنانيًا متفاقمًا بين مطالب الخارج وضغوط الداخل، في ظل دولة شبه غائبة عن ميدان القرار، وشعب يعيش على وقع الرصاص ولو من خلف الستار.

استعراض قوة


في لحظة خاطفة، عادت بيروت إلى صور من الماضي لا يرغب اللبنانيون بتذكرها، رجال ملثمون، يرتدون السواد ويحملون السلاح، يسيرون في مجموعات منضبطة وسط العاصمة، في استعراض عسكري لحزب الله طال مناطق الحمراء وبعض محيطها.

لم يكن ذلك استعراض قوة في الجنوب أو البقاع، بل في قلب بيروت، ما اعتبره كثيرون رسالة داخلية وخارجية، وأثار ردود فعل غاضبة بين أوساط سياسية وشعبية.

الرسالة كانت واضحة، لا أحد فوق الحزب في لبنان، ولا أحد قادر على فرض شروطه عليه… إلا بشروطه هو.

لكن خلف العرض العسكري تقف تحوّلات أكبر، فوفق معلومات خاصة أوردتها مصادر لوسائل إعلام محلية، فإن حزب الله يعكف على دراسة رد على مبادرة أميركية سلمها المبعوث توماس باراك خلال زيارته لبيروت في يونيو، الورقة الأميركية تطلب التزامًا واضحًا من الحكومة اللبنانية بنزع سلاح حزب الله، مع ضمان أن تكون الدولة وحدها هي من تحتكر القوة على أراضيها.

حزب الله: مراجعة استراتيجية بعد الحرب

بالتوازي مع تلك الاتصالات، كشفت وكالة رويترز نقلاً عن ثلاثة مصادر مطلعة، أن حزب الله بدأ "مراجعة استراتيجية كبرى" بعد المواجهة الأخيرة مع إسرائيل، هذه المراجعة تشمل إمكانية تقليص الدور العسكري للحزب، خاصة في المناطق غير الجنوبية، من دون التخلّي عن السلاح بالكامل، وتكشف المصادر أن قيادة الحزب تعتبر ترسانتها العسكرية "عبئًا" في المرحلة المقبلة، سواء من ناحية التكلفة السياسية أو اللوجستية.

الملفت في هذا التوجه أن الحزب بات منفتحًا، بحسب المصادر، على مبدأ "خطوة مقابل خطوة": تسليم محدود لبعض الأسلحة مقابل انسحاب إسرائيلي من الجنوب ووقف هجماتها الجوية.

مع ذلك، يرفض الحزب وضع أي جدول زمني للتخلي عن سلاحه، ويصر على الاحتفاظ بالصواريخ المضادة للدبابات والأسلحة الخفيفة كـ"أدوات دفاعية".

من ناحية أخرى، يتزايد القلق داخل أروقة الحزب من إمكانيات الدعم الإيراني بعد الحرب مع إسرائيل، فطهران تواجه استنزافًا اقتصاديًا وسياسيًا، وهو ما قد ينعكس على تمويل أذرعها في الإقليم. 

مسؤولون لبنانيون تحدثوا لـ"رويترز" عن نقاشات داخل الحزب بشأن حجم الدعم المستقبلي، في ظل متغيرات إقليمية كبرى تهدد استمرارية التمويل.

رد لبناني.. بشروط


في السياق، كشف مصدر رسمي لبناني، أن بيروت تعمل على إعداد رد على الورقة الأميركية، يتضمن مطالبة بضمانات، وعلى رأسها انسحاب إسرائيلي شامل من مزارع شبعا وتلال كفرشوبا.

فالدولة اللبنانية لا تمانع من حيث المبدأ فكرة حصر السلاح بيد الدولة، لكن شريطة "توازن في الضغوط"، وعدم الاكتفاء بمطالبة الداخل اللبناني بالتنازلات في حين تظل إسرائيل تمارس الخروقات اليومية للأجواء والحدود.

ورغم حديث بعض الأوساط عن "فرصة تاريخية" لإعادة هيكلة المشهد الأمني في لبنان، فإن شريحة كبيرة من اللبنانيين ترى أن الأمر يتجاوز حزب الله وحده، ليرتبط بمشروع إقليمي أوسع، حيث ترتبط معادلة السلاح بالمفاوضات النووية الإيرانية، وبالموقف الأميركي من نفوذ طهران في سوريا والعراق واليمن.

انقسام داخلي وقلق شعبي


الاستعراض المسلح للحزب لم يمرّ مرور الكرام في الداخل اللبناني، فقد أدانه عدد من القوى السياسية المعارضة، معتبرين أنه يشكّل "تهديداً للسلم الأهلي" و"اعتداءً على سيادة الدولة".

أما الشارع، فقد بدا منقسمًا كعادته: بين من يراها رسالة موجهة لإسرائيل وواشنطن في وقت التفاوض، ومن يعتبرها عرضًا استعراضيًا يعكس هشاشة الدولة وسيطرة السلاح غير الشرعي.

في المحصلة، فإن مشهد بيروت الأخير لم يكن مجرد عرض عسكري.. بل عرض لحقيقة المأزق اللبناني المركب: سلاح لا يستطيع الحزب التخلي عنه، ودولة لا تستطيع حمله، ومجتمع دولي لا يقبل ببقائه.

التفاوض تحت الدخان


من جانبه، يرى الدكتور مصطفى علوش، النائب السابق والمحلل السياسي البارز،أن استعراض حزب الله العسكري في شوارع بيروت ليس مجرد رسالة أمنية بل يحمل أبعادًا سياسية داخلية وإقليمية دقيقة.

ويقول في تصريحات لـ"العرب مباشر"، الاستعراض يعكس بوضوح أن الحزب ما يزال يتصرف بمنطق الدولة داخل الدولة، غير عابئ بما تبقى من هيبة المؤسسات الرسمية. في التوقيت، لا يمكن فصل ما حدث عن المفاوضات الجارية مع الأميركيين، فحزب الله يُجيد التفاوض تحت الدخان، ويريد أن يقول: إن سلاحه ما يزال ورقته الأقوى.

ويضيف علوش: أن ما يردده الحزب عن "مراجعة استراتيجية" لا يعني بالضرورة تخليًا عن دوره العسكري، بل إعادة تموضع ذكي لتفادي الضغوط الدولية.

وأضاف علوش، ما يطرحه الحزب من إمكانية تسليم جزئي للسلاح أو تخفيف الظهور العلني هو تكتيك لحماية صورته في الداخل، لا تغيير جوهري في العقيدة، معتبرًا أن جوهر الأزمة يكمن في غياب الإرادة السياسية للدولة اللبنانية، واستمرار الارتهان لمحاور إقليمية.

ويختم علوش، المشكلة الحقيقية ليست في سلاح حزب الله وحده، بل في بيئة سياسية تشرعن وجوده، وتغض الطرف عن كل ما يقوض فكرة الدولة، ما لم يُكسر هذا النمط، فلن تكون هناك سيادة فعلية على الأرض اللبنانية.