فقرٌ في أرض الثراء.. لماذا يتزايد عدد المتسوّلين الليبيين؟

فقرٌ في أرض الثراء.. لماذا يتزايد عدد المتسوّلين الليبيين؟

فقرٌ في أرض الثراء.. لماذا يتزايد عدد المتسوّلين الليبيين؟
ليبيا

في بلد يطفو على بحيرة من النفط، تحقّق مبيعاته مليارات الدولارات سنويًا، لم يكن أحد ليتخيّل أن يرى مواطنيه يفترشون الأرصفة، ممدّين أياديهم طلبًا للمساعدة، لكن المشهد اليوم في ليبيا يُظهر حقيقة صادمة، فأعداد المتسوّلين الليبيين في تزايد غير مسبوق، وشرائح جديدة تنضم إلى الظاهرة، أبرزها النساء والأطفال، لم يكن التسوّل ظاهرة غريبة على ليبيا، حيث لطالما ارتبط بوجود وافدين أجانب في وضعية هشّة، إلا إن الإحصائيات الحديثة تكشف عن تحوّل لافت، إذ بات المواطنون الليبيون أنفسهم يشكّلون جزءًا كبيرًا من هذه الظاهرة، في مؤشر واضح على عمق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، فكيف تحوّلت ليبيا، الدولة التي تملك إحدى أكبر احتياطيات النفط في العالم، إلى أرض يعاني فيها شعبها من الفقر لدرجة اللجوء إلى التسوّل؟ وما العوامل التي دفعت بهذه الظاهرة إلى الانتشار بهذا الشكل المقلق؟

*التسوّل في ليبيا.. أرقام تنذر بالخطر*


أعلنت مديرية أمن طرابلس، في تقرير صدر مؤخرًا، عن ضبط 878 متسوّلًا في العاصمة طرابلس خلال عام 2023، في زيادة ملحوظة مقارنة بالسنوات السابقة.

لكن المفاجأة الأكبر كانت أن ثلث هؤلاء المتسوّلين يحملون الجنسية الليبية، وهو تطوّر يعكس حجم التدهور المعيشي في البلاد، وبحسب الإحصائيات، فإن بين المتسوّلين المضبوطين 329 ليبيًا، بينهم 90 رجلًا و178 امرأة و61 طفلًا، و549 أجنبيًا، بينهم 106 رجال و283 امرأة و160 طفلًا. 

هذه الأرقام تطرح تساؤلات حول الأسباب الحقيقية وراء انزلاق الليبيين إلى هذه الحالة، ومدى ارتباط ذلك بالأزمة الاقتصادية والسياسية التي تعصف بالبلاد منذ أكثر من عقد. 

*الاقتصاد الليبي*


رغم أن ليبيا تُصنّف كواحدة من أغنى الدول الإفريقية بفضل احتياطياتها النفطية الضخمة، فإن 40% من سكانها يعيشون تحت خط الفقر، وفق أحدث التقديرات هذا التناقض الصارخ بين الثروة والفقر يعود إلى عوامل عدّة، أبرزها - وفقًا لأحمد حمزة رئيس المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان في ليبيا-: التضخم، وانهيار الدينار الليبي، حيث أدّى التدهور الاقتصادي الحاد إلى ارتفاع الأسعار بشكل جنوني؛ مما جعل حتى الاحتياجات الأساسية بعيدة عن متناول الكثيرين.

بالإضافة إلى البطالة المتزايدة، فلم تعد فرص العمل متاحة لآلاف الليبيين، خاصة الشباب، ما دفع الكثيرين إلى البحث عن أي وسيلة للبقاء على قيد الحياة، حتى لو كان ذلك عبر التسوّل، كذلك النزوح والتهجير الداخلي بعد أن تسبّبت الصراعات المستمرة في تشريد آلاف الأسر، التي وجدت نفسها بلا مأوى أو مصدر دخل؛ مما أجبر العديد منها على اللجوء إلى التسوّل كحل أخير.

وأخيرًا، الفساد وسوء توزيع الثروة حيث تسيطر أطراف سياسية وميليشيات مسلحة على عائدات النفط، بينما تُحرم شريحة واسعة من الليبيين من نصيبهم في هذه الثروة، ما أدّى إلى انهيار الخدمات الأساسية مثل: الصحة والتعليم والبنية التحتية.

 

*ضحايا بلا حماية* 


أحد أكثر الجوانب اللافتة في هذه الظاهرة هو الارتفاع الملحوظ في أعداد النساء المتسوّلات، إذ بلغ عددهن 461 امرأة، وهو رقم غير مسبوق في تاريخ البلاد، ويعود ذلك إلى عدة أسباب، منها: فقدان النساء المُعيلات لأسرهن بسبب الحروب والاضطرابات، ارتفاع معدلات الطلاق والأرامل نتيجة النزاعات المستمرة، وعدم توفر فرص عمل لهن، ما يجعلهن أكثر عرضة للاستغلال الاقتصادي والاجتماعي، هذا الوضع المأساوي جعل المرأة الليبية، التي كانت تتمتع بمكانة اجتماعية واقتصادية جيدة قبل الأزمة، في مواجهة مباشرة مع الفقر والتهميش. 

الرقم الأكثر إثارة للقلق هو أن 221 طفلًا ليبيًا وجدوا أنفسهم مضطرين للتسوّل، إما بسبب فقدان ذويهم، أو لأنهم أصبحوا المعيلين الوحيدين لأسرهم.

ويحذّر خبراء من أن هذه الظاهرة قد تؤدي إلى تفاقم مشكلات أخرى، مثل عمالة الأطفال والجريمة والاستغلال من قبل شبكات الاتجار بالبشر؛ مما يجعل الأمر أكثر خطورة من مجرّد كونه أزمة معيشية. 

*هل يمكن كبح الظاهرة* 


يؤكّد رئيس المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان في ليبيا، أحمد حمزة، أن تفاقم ظاهرة التسوّل يعكس عمق الأزمة الإنسانية والاقتصادية التي يعيشها الليبيون، مشيرًا أن الحل لا يكمن فقط في ملاحقة المتسوّلين أمنيًا، بل في معالجة الأسباب الجذرية التي دفعتهم إلى هذا الطريق. 

ويطالب الخبراء الحكومة الليبية باتخاذ خطوات حاسمة، مثل: تحسين الوضع الاقتصادي عبر ضبط التضخم ودعم العملة المحلية، وتوفير فرص عمل حقيقية لآلاف العاطلين، وإعادة توزيع عائدات النفط بشكل عادل ليصل إلى المواطنين، وإطلاق برامج اجتماعية لحماية النساء والأطفال من التسوّل والاستغلال، مضيفًا، في نهاية المطاف، لا يمكن الحديث عن استقرار ليبيا دون معالجة هذه المشكلات الجوهرية، فبلد يملك ثروات بحجم ليبيا لا يُفترض أن يكون التسوّل فيه خيارًا لمواطنيه.