اتفاقية الظل.. كيف تموّل أوروبا انتهاكات حقوق المهاجرين في ليبيا؟

اتفاقية الظل.. كيف تموّل أوروبا انتهاكات حقوق المهاجرين في ليبيا؟

اتفاقية الظل.. كيف تموّل أوروبا انتهاكات حقوق المهاجرين في ليبيا؟
المهاجرين

في عرضٍ متجدّد لمأساة الهجرة عبر المتوسط، تتقاطع البنادق مع الدبلوماسية، وتتحول المياه الفاصلة بين ليبيا وإيطاليا إلى مسرحٍ لجدلٍ سياسيّ وإنسانيّ متفجر، فبينما تسعى روما، بدعم من الاتحاد الأوروبي، إلى كبح تدفق المهاجرين عبر اتفاقات أمنية مثيرة للجدل، تتهم منظمات الإغاثة خفر السواحل الليبي، الممول والمُدرّب أوروبيًا، بالتحوّل إلى أداة قمع تمارس العنف ضد من يفترض بهم إنقاذهم.

 الأصوات الأوروبية المنادية بـ وقف الانتهاكات تتصاعد، والتحقيقات الجارية لا تبدو كافية لطمأنة الرأي العام الذي يرى في الاتفاق الإيطالي الليبي نموذجًا للفشل الأخلاقي قبل أن يكون نجاحًا أمنيًا.

 ومع اقتراب موعد تجديد الاتفاق مطلع العام المقبل، تجد حكومة ميلوني نفسها أمام سؤالٍ ثقيل، هل تواصل سياسة الردع بالوكالة، أم تعيد النظر في شراكةٍ تتهمها المنظمات الحقوقية بأنها تموّل الرصاص بدلًا من الإنقاذ؟

موجة استنكار


لم يكن البحر الأبيض المتوسط يومًا هادئًا، لكنه اليوم، أكثر من أي وقت مضى، يعكس عمق الانقسام بين سياسات أوروبا الأمنية وأخلاقيات إنقاذ الأرواح. فمع تجدد الاتهامات الموجهة إلى خفر السواحل الليبي بإطلاق النار على سفن الإنقاذ الإنسانية، تعود الأنظار مجددًا إلى الاتفاق الذي يربط طرابلس وروما منذ عام 2017، والذي أعيد تفعيله تحت رعاية الاتحاد الأوروبي.

الحادثة الأخيرة، التي وصفتها منظمة إس أو إس ميديتيراني بأنها هجوم متعمد، لم تكن الأولى من نوعها، فقد أُطلقت مئات الطلقات خلال عشرين دقيقة من الرعب باتجاه طاقم سفينة الإنقاذ أوشن فايكنغ، ما أعاد فتح ملف طالما سعت الحكومات الأوروبية إلى إغلاقه خلف عناوين الأمن والسيادة.

بعدها بأيام، أكدت منظمة "سي ووتش" الألمانية، أن سفينتها تعرضت بدورها لإطلاق نار حي من قبل نفس الجهة، ما أثار موجة استنكار دولية واسعة.

في قلب هذه الأزمة تقف حكومة جورجيا ميلوني، التي تعتبر أن اتفاق التعاون مع ليبيا أداة ضرورية للحد من تدفق المهاجرين، وهو ما يلقى تأييدًا من حزبها اليميني المتشدد إخوة إيطاليا، إذ يرى الائتلاف الحاكم في خفر السواحل الليبي درعًا متقدمًا يحمي شواطئ أوروبا من موجات النزوح غير الشرعي. لكن هذا الدرع تحوّل في نظر المنظمات الحقوقية إلى واجهة عنف تموّلها أوروبا باسم الأمن.

الاتفاقية التي وُقعت أول مرة عام 2017 بين حكومة يسار الوسط الإيطالية وطرابلس، نصّت على تمويل وتدريب خفر السواحل الليبي، وتزويده بزوارق سريعة وأجهزة مراقبة حديثة.

 لكن تقارير أممية متتالية كشفت أن بعض مراكز الاحتجاز الممولة من الاتحاد الأوروبي تُدار فعليًا من قبل ميليشيات تتورط في الاتجار بالبشر والتعذيب والابتزاز،  ما جعل الاتفاق موضع إدانة متكررة في البرلمان الأوروبي.

المعارضة والانتقادات.. صوت الضمير الأوروبي


منظمات المجتمع المدني الأوروبية – نحو 42 منظمة – وجهت مؤخرًا رسالة إلى المفوضية الأوروبية تطالب فيها بوقف التمويل الفوري لأي كيان ليبي متورط في العنف ضد المدنيين أو ضد طواقم الإنقاذ الدولية.

 وجاء في الرسالة، أن أموال دافعي الضرائب الأوروبيين لا ينبغي أن تُستخدم لتسليح من يطلق النار على المدنيين، أما المتحدثة باسم منظمة سي ووتش، جورجيا ليناردي، فقالت بوضوح: الحكومات الأوروبية سمحت للميليشيات بأن تطلق النار باسمها.

على الجانب الإيطالي، بدأت المعارضة البرلمانية ترفع صوتها ضد استمرار الاتفاق. فقد صرّح النائب اليساري ماتيو أورفيني، بأن إيطاليا تُفوّض أعمالها القذرة إلى جماعات مسلحة، معتبرًا أن هذا النموذج يجعل روما عرضة للابتزاز من الميليشيات الليبية.

وأشار إلى حادثة إطلاق سراح مشتبه به ليبي في جرائم حرب بداية العام الجاري – يُدعى أسامة المصري نجيم – متهم بإدارة مركز احتجاز سيئ السمعة في معيتيقة، قائلاً: الاتفاق جعل الحكومة الإيطالية رهينة لمجرمي حرب.

تمويل لأنتهاكات ممنهجة


الأرقام الرسمية تُظهر أن الاتحاد الأوروبي أنفق نحو 465 مليون يورو على ملف الهجرة في ليبيا بين عامي 2015 و2021، إلى جانب 65 مليون يورو إضافية، مخصصة لإدارة الحدود حتى عام 2027، جزء من هذه الأموال وُجه لتدريب وتجهيز خفر السواحل عبر بعثات مدنية وعسكرية، وهو ما تعتبره بروكسل دعماً للقدرات الليبية، لكن منظمات حقوق الإنسان ترى فيه تمويلاً لانتهاكات ممنهجة.

وفيما تنتظر المفوضية الأوروبية نتائج التحقيقات التي وعدت بها السلطات الليبية، لا يبدو أن شيئًا سيتغير على المدى القريب. فالحكومة الإيطالية لم تُبد أي نية للانسحاب من الاتفاق، رغم أن موعد الإشعار الرسمي بالانسحاب يقترب خلال أسابيع. 

وبهذا، تُواجه ميلوني اختبارًا حرجًا بين الحفاظ على شعبيتها الداخلية القائمة على خطاب «الأمن أولاً»، وبين الاتهامات التي تضع حكومتها في قلب مأزق إنساني وسياسي متصاعد.

 ومع اقتراب فبراير المقبل، موعد التجديد التلقائي للاتفاق، يزداد الضغط على بروكسل وروما لتصحيح المسار. لكن السؤال يبقى، هل تملك أوروبا الشجاعة لتفكيك منظومة أنفقت عليها مئات الملايين؟ أم أنها ستستمر في تمويل «الجدار الليبي» الذي يفصلها عن أزماتها الأخلاقية.