هدنة مسمومة.. كيف حوّلت تل أبيب الإغاثة إلى سلاح سياسي ضد غزة

هدنة مسمومة.. كيف حوّلت تل أبيب الإغاثة إلى سلاح سياسي ضد غزة

هدنة مسمومة.. كيف حوّلت تل أبيب الإغاثة إلى سلاح سياسي ضد غزة
حرب غزة

بينما تتنفس غزة للمرة الأولى منذ عامين، وتعيش هدنة شديدة الضعف والهشاشة، يظهر في الأفق عدوّ جديد لا يُرى ولا يُسمع، لكنه يفتك بأرواح الناس ببطء أكثر فتكًا من القنابل، فمع أن اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة حماس في 8 أكتوبر منح الأمل بعودة الاستقرار وبدء تدفق المساعدات، إلا أن مشهد الشاحنات المتوقفة على المعابر، وصفوف الجياع الممتدة في الشوارع، يعيد رسم صورة مختلفة تمامًا، الجوع بات الوجه الآخر للحصار، وأداةً من أدوات الحرب في زمن السلام المزعوم، وبدل أن تكون المساعدات الإنسانية جسرًا نحو التعافي، تحوّلت إلى ورقة مساومة في لعبة سياسية معقدة تهدد بتفجير الهدنة الهشة، من رفح المغلقة إلى المستشفيات المدمرة، ومن المخيمات الغارقة في العطش إلى صمت المجتمع الدولي، تتكشف مأساة إنسانية متكاملة تُبقي غزة في دائرة الخطر رغم صمت المدافع.

هدنة تحت الحصار


كان يفترض أن يشكل اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة حماس في 8 أكتوبر بداية فصل جديد لغزة، حيث نصّت الخطة الأمريكية ذات النقاط العشرين التي حملت توقيع الرئيس دونالد ترامب على إدخال 600 شاحنة مساعدات يوميًا دون قيود.


غير أن الواقع سرعان ما قلب الوعود إلى أزمات متتالية، فبدل أن تُفتح المعابر، أُغلقت، وبدل أن تتدفق الإغاثة، حوصرت عند الحدود، وبرّرت إسرائيل تأجيل فتح معبر رفح بعدم تسلّم جثث رهائنها، قبل أن تُخفض عدد الشاحنات إلى النصف.


وحتى حين أجبرها الضغط الأمريكي على التراجع عن تهديدها بإغلاق شامل للمعابر، بقيت آلية إدخال المساعدات بطيئة ومقيّدة، فيما ازدادت مؤشرات الجوع سوءًا حتى وصفتها الأمم المتحدة بـ"الكارثية".


تحولت المساعدات الإنسانية إلى أداة مساومة سياسية، تُستخدم لترسيخ مبدأ "الإغاثة مقابل التنازل"، فكل قرار يتعلق بدخول الغذاء أو الوقود أو الدواء بات مرهونًا بإرادة تل أبيب وموافقتها الأمنية.


ومع أن القانون الدولي يُلزم الأطراف المتحاربة بالسماح بوصول الإغاثة للمدنيين، فإن إسرائيل واصلت التحكم الكامل في قنوات التسليم، رافضة التعاون مع وكالة الأونروا التي تمثل العمود الفقري للشبكة الإنسانية في غزة، هذا الرفض لم يكن مجرد خلاف إداري، بل خطوة متعمدة لإفراغ الساحة من أي كيان قادر على تنظيم عمليات الإغاثة، وتحويل المساعدات إلى أداة ضغط تفاوضي ذات طابع عسكري وسياسي.

غزة على شفا المجاعة


منذ مارس 2025، يعيش سكان القطاع تحت حصار شامل دمّر بنية الحياة اليومية، فقد أعلنت الأمم المتحدة في أغسطس الماضي اندلاع مجاعة رسمية في مناطق واسعة، إذ تشير الأرقام إلى تهجير نحو 1.9 مليون فلسطيني أي أكثر من 90% من السكان فيما دُمّر 80% من المساكن و89% من شبكات المياه، وتضررت 94% من المرافق الصحية.


هذه الكارثة ليست مفاجئة، بل ثمرة مباشرة لسياسة الحصار التي أطلقها وزير الدفاع الإسرائيلي السابق يوآف غالانت قبل عامين، حين أمر بمنع إدخال الغذاء والماء والوقود في خطوة وُصفت بأنها "عقوبة جماعية" صريحة.


إسرائيل لم تكتفِ بتقليص المساعدات، بل قادت حملة منهجية لإضعاف الأونروا منذ عام 2024، بإقرار الكنيست قانونًا يحظر التعامل مع الوكالة بزعم اختراقها من قبل حماس. وعلى الرغم من أن التحقيق الأممي أثبت أن عدد الموظفين المتورطين في مخالفات فردية لا يتجاوز تسعة من أصل ثلاثين ألفًا، إلا أن الضرر كان قد وقع، ومع غياب الأونروا، دخلت المنظومة الإنسانية في غزة مرحلة شلل شبه تام، حيث لم تعد هناك جهة مركزية لتوزيع الإغاثة أو تنسيق جهود الإنقاذ.

العدالة الدولية تتحرك.. والاتهامات تتسع


في مارس 2024، وجّهت محكمة العدل الدولية صفعة قانونية لتل أبيب بإصدار قرار بالإجماع يُلزمها بضمان وصول المساعدات بشكل واسع وفوري، في حين أصدرت المحكمة الجنائية الدولية لاحقًا مذكرات اتهام بحق رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق غالانت، بتهم تتعلق بجرائم تجويع المدنيين.


تقرير الأمم المتحدة الأخير في سبتمبر 2025 ذهب أبعد من ذلك، متحدثًا صراحة عن "إبادة جماعية من خلال التجويع القسري"، ورغم رفض إسرائيل لهذه الاتهامات، إلا أن الضغوط القضائية والسياسية بدأت تترك أثرها على حلفائها، خاصة في واشنطن.


الولايات المتحدة تبقى الطرف الوحيد القادر على كبح الانهيار الإنساني الكامل، فقد أنشأت مركز التنسيق المدني - العسكري، لمراقبة تنفيذ بند الإغاثة في اتفاق الهدنة، بمشاركة نحو 200 عنصر من الجيش الأمريكي يعملون لضمان تدفق المساعدات.


لكن فعالية هذا المركز محدودة من دون شراكة حقيقية مع الأمم المتحدة، التجربة السابقة في إنشاء "مؤسسة غزة الإنسانية" بإدارة مقاولين عسكريين انتهت بمأساة حين سقط مئات القتلى في فوضى توزيع الطعام، لذلك يطالب خبراء الأمم المتحدة بآلية رقابة دولية جديدة تشارك فيها واشنطن والقاهرة والدوحة لضمان حياد الإغاثة واستمراريتها بعيدًا عن الحسابات السياسية.


حرب بوسائل أخرى


من جانبه، يقول الدكتور يحيى قاعود، أستاذ العلاقات الدولية والمحلل السياسي الفلسطيني، إن ما يجري في غزة بعد الهدنة لا يمكن وصفه إلا بأنه "حرب بوسائل أخرى"، فبينما توقف القصف العسكري، بدأت مرحلة التجويع الممنهج والابتزاز الإنساني، ويضيف أن إسرائيل تستخدم المساعدات كأداة تفاوضية لتكريس واقع سياسي جديد في القطاع، هدفه النهائي إضعاف حماس وتطويع المجتمع الغزي عبر التحكم في لقمة العيش.


ويرى قاعود في تصريحاته لـ"العرب مباشر"، أن الأزمة تتجاوز بعدها الإنساني لتتحول إلى صراع على الشرعية والهيمنة، فكل شاحنة مساعدات تمر من المعبر تخضع لحسابات معقدة تتعلق بالضغط الأميركي، والاعتبارات الأمنية الإسرائيلية، والتنافس بين الفصائل الفلسطينية على من يملك "حق التوزيع".


ويؤكد أن استمرار هذا النهج سيقوّض أي فرصة لاستقرار حقيقي، لأن السلام لا يُبنى على الجوع، كما يحذّر من أن تفكيك الأونروا واستبدالها بآليات إسرائيلية أو أميركية يعني عمليًا إنهاء البعد القانوني لقضية اللاجئين الفلسطينيين، وهو ما يشكل خطرًا وجوديًا على القضية برمّتها.


ويختتم قاعود بالقول إن "المعركة المقبلة لن تكون على حدود غزة، بل على سيادتها الإنسانية"، داعيًا إلى إنشاء آلية دولية شفافة بإشراف الأمم المتحدة تضمن وصول الإغاثة دون تسييس أو تدخل عسكري.