قرية ابتلعتها الأرض.. الكوارث الطبيعية تُعمق جراح السودان
قرية ابتلعتها الأرض.. الكوارث الطبيعية تُعمق جراح السودان

لم يعد السودان يعرف متى يبدأ كابوسه أو أين ينتهي، فبينما تمزقه حرب ضروس منذ أكثر من عام، جاءت الفيضانات والانزلاقات الأرضية لتزيد من عمق المأساة، وتحوّل القرى إلى أطلال والبيوت إلى أنقاض، في جنوب دارفور، ابتلعت الانزلاقات الأرضية قرية بأكملها، تاركة خلفها مأساة بشرية لا ينجو منها سوى شخص واحد، وفي القضارف والبحر الأحمر، هجّرت السيول آلاف الأسر التي فقدت منازلها ومصادر رزقها في لمح البصر، وبين أنقاض الخراب، تبذل وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية جهودًا متفرقة لإغاثة الضحايا، لكنها تصطدم بواقع أكثر قسوة، بلد مشلول اقتصاديًا، ممزق سياسيًا، ومثقل بأزمات متراكبة، ومع استمرار الحرب الدامية، تتضاعف الاحتياجات الإنسانية إلى مستويات غير مسبوقة، حيث يواجه أكثر من نصف سكان البلاد خطر المجاعة، المشهد السوداني اليوم هو لوحة قاتمة تتقاطع فيها قسوة الطبيعة مع وحشية الإنسان، ليجد ملايين المدنيين أنفسهم محاصرين بين الموت بالنار أو الغرق بالطوفان.
قسوة الطبيعة والحرب
في قرية ترسين بجنوب دارفور، لم يعد هناك أثر يُذكر لحياة كانت تضج بالحركة قبل أسابيع قليلة فقط، انزلاق أرضي ضخم ناجم عن الأمطار الغزيرة محا القرية بأكملها من الخريطة، وأودى بحياة أكثر من ألف شخص، وفق ما أعلنت حركة مسلحة تسيطر على المنطقة.
أحد الناجين يروي، وفق شهادات محلية، مشهدًا يفوق الوصف: منازل تنهار في ثوانٍ، أشجار تُقتلع من جذورها، وأصوات استغاثة سرعان ما ابتلعتها السيول.
الأمم المتحدة سارعت إلى إطلاق بعثة تقييم مشتركة ضمّت نحو عشر وكالات، إلى جانب منظمات غير حكومية محلية ودولية.
هذه البعثة تمكنت من إيصال الغذاء والدواء إلى ألف متضرر على الأقل، لكن الأرقام تكشف أن الحاجة تفوق ذلك بعشرات المرات، فالأسر المشرّدة في القضارف وحدها بلغت 2500 عائلة، بعد أن دُمّر نحو 500 منزل في قرية ود الشاعر خلال يومين فقط.
المشهد يتكرر في ولايات أخرى، من البحر الأحمر شرقًا إلى جنوب دارفور غربًا، مئات العائلات تهيم بلا مأوى، بينما تغمر السيول الأراضي الزراعية وتدمر المحاصيل التي يعتمد عليها ملايين السودانيين في غذائهم ومعيشتهم، وهنا تتضح خطورة الكارثة، فالسودان الذي يقف أصلًا على شفير المجاعة بسبب الحرب، يخسر ما تبقى من أمنه الغذائي تحت ضربات الطبيعة.
أرقام مفزعة
لكن الفيضانات ليست سوى جزء من الصورة القاتمة، منذ اندلاع القتال في أبريل 2023، دخل السودان في واحدة من أسوأ أزماته التاريخية، تقارير أممية حديثة تكشف أن أكثر من 16 مليون سوداني نزحوا من ديارهم، بينهم 4 ملايين عبروا الحدود إلى دول الجوار، أكثر من نصف السكان، أي نحو 26 مليون شخص، يقفون على حافة الجوع، بينما يواجه 15.9 مليون طفل مستقبلًا غامضًا بعد أن حُرموا من التعليم.
الأرقام المتعلقة بالخسائر البشرية تكاد تصدم أكثر من أي خطاب سياسي، منظمة الصحة العالمية أحصت 40 ألف قتيل، لكن تقديرات أخرى تشير إلى ما هو أسوأ، منها 60 ألفًا في الخرطوم وحدها، وصولًا إلى 150 ألفًا وفق تقديرات غير رسمية.
أما الاتهامات، فتتجاوز أرقام الضحايا لتشمل جرائم تطهير عرقي، عنفًا جنسيًا واسع النطاق، وانتهاكات بحق الأطفال.
البنية التحتية لم تسلم هي الأخرى من ويلات الحرب والكوارث. فقد دُمّرت 124 منشأة طبية، بينما تضررت 64 محطة كهرباء ومياه، ما حرم نحو 70% من السكان من الخدمات الأساسية.
في الوقت ذاته، تنتشر الأمراض المعدية كالكوليرا والحصبة والملاريا في مخيمات النزوح المكتظة، ليواجه أكثر من 3 ملايين طفل خطرًا صحيًا داهمًا.
وعلى الصعيد الثقافي والروحي، طالت الخسائر 180 دار عبادة وعشرة مواقع أثرية وثقافية، بينها المتحف الوطني في الخرطوم. وهكذا، لا يقتصر الخراب على البشر والطبيعة، بل يمتد إلى ذاكرة البلاد وهويتها التاريخية.
جرس إنذار
المجتمع الدولي يجد نفسه أمام معضلة مضاعفة، فالمساعدات الإنسانية، رغم أهميتها، تبدو أشبه بقطرات ماء في صحراء ممتدة، فيما تفشل محاولات الوساطة السياسية المتكررة في وقف الحرب أو حتى التخفيف من حدتها.
ومع تراجع قيمة العملة المحلية وانهيار الاقتصاد، تتزايد الضغوط على السودانيين الذين يحاولون يوميًا النجاة من مجاعة تلوح في الأفق بينما الموت يحاصرهم من كل اتجاه، فالفيضانات الأخيرة لم تكن مجرد كارثة طبيعية عابرة، بل جرس إنذار جديد يؤكد أن السودان يعيش مأساة مركبة لا يمكن فصل مكوناتها، الطبيعة تضرب بعنف، لكن الحرب هي التي تمنع البلاد من التعافي وتحوّل كل كارثة إلى مأساة مضاعفة.
من جانبه، يقول المحلل السياسي السوداني عثمان الميرغني: إن ما يحدث في السودان اليوم يرقى إلى وصفه بـ"أزمة مركبة"، تجمع بين النزاع المسلح والكوارث الطبيعية، ما يجعل الاستجابة الإنسانية أكثر تعقيدًا وصعوبة، موضحًا أن الفيضانات والانزلاقات الأرضية ليست مجرد أحداث مناخية عابرة، بل تتحول في ظل الحرب إلى عوامل مضاعفة للأزمات، إذ تعطل طرق الإمداد، وتزيد من أعداد النازحين الذين كانوا أصلًا بلا مأوى أو غذاء كافٍ.
وأشار الميرغني -في تصريح لـ"العرب مباشر"-، أن الاستجابة الحالية غير كافية، فالأمم المتحدة والمنظمات الشريكة تواجه تحديات لوجستية وأمنية هائلة، أبرزها صعوبة الوصول إلى المناطق المتضررة بسبب استمرار المعارك.
وأضاف: أن الوضع يفرض على المجتمع الدولي إعادة التفكير في آليات الدعم، بحيث لا يقتصر على الإغاثة الطارئة، بل يتضمن خططًا متوسطة المدى تركز على تعزيز القدرة على الصمود، مثل دعم الزراعة المحلية، وترميم شبكات المياه والكهرباء، وتوفير التعليم للأطفال النازحين.
واختتم بالقول: إن استمرار تجاهل السودان أو التعامل مع أزمته بمنطق "المساعدات المؤقتة" سيؤدي إلى كارثة ممتدة تتجاوز الحدود، ليس فقط عبر موجات لجوء جديدة، بل أيضًا عبر انهيار شامل لبنية دولة كبرى في قلب أفريقيا.