بكين من الانكماش إلى الهجوم.. شي يرسم خريطة تحالفات جديدة ضد الحرب التجارية الأمريكية
بكين من الانكماش إلى الهجوم.. شي يرسم خريطة تحالفات جديدة ضد الحرب التجارية الأمريكية

في أول تعليق علني له بشأن التصعيد المتزايد في الحرب التجارية مع الولايات المتحدة، أكد الرئيس الصيني شي جين بينغ أن بلاده "لا تخاف"، مشددًا على ثقة الصين بقدراتها رغم الاضطرابات التي أحدثها هذا النزاع التجاري في الأسواق العالمية والمخاوف المتنامية من دخول الاقتصاد العالمي في حالة ركود.
وفي لقاء ثنائي عقد في بكين مع رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز، قال شي إن "الحروب التجارية لا يوجد فيها رابح، ومن يعادي العالم سيجد نفسه معزولاً".
وأضاف، كما نقلت عنه قناة التلفزيون الصينية الرسمية (CCTV)، أن تطور الصين على مدار أكثر من سبعين عاماً اعتمد على الاعتماد على النفس والعمل الجاد، وليس على مساعدات من الآخرين، وبالتالي فإنها "لا تخاف من أي شكل من أشكال القمع غير العادل".
الحرب التجارية
وأكدت شبكة "سي إن إن" الأمريكية، أن الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة قد تصاعدت بشكل لافت في الأسابيع الأخيرة، مع فرض كل من البلدين رسوماً جمركية متبادلة غير مسبوقة.
وتابعت أنه غم التوترات، بقي شي صامتاً علنياً حتى الآن، لكن تصريحاته الجديدة بدت تحديًا واضحًا للولايات المتحدة، ومؤكدة على ما سبق أن عبّر عنه مسؤولون صينيون ووسائل الإعلام الحكومية من رسائل تؤكد الصمود والقوة.
وقال شي: "بغض النظر عن تغيرات البيئة الخارجية، ستبقى الصين واثقة، ومركّزة، ومصمّمة على إدارة شؤونها الداخلية بشكل جيد".
تصعيد الرسوم الجمركية
وفي الوقت الذي مُنحت فيه دول العالم الأخرى مهلة مؤقتة لمدة 90 يومًا من الرسوم "المتبادلة" التي فرضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، قرر الأخير المضي في تصعيد الضغط على الصين، معلناً رفع الرسوم الجمركية على الواردات الصينية إلى 145%.
وردت بكين بإجراءات عقابية شملت رفع الرسوم إلى 84% على البضائع الأمريكية، وفرض قيود على استيراد أفلام هوليوود، بالإضافة إلى منع بعض الشركات الأمريكية من مزاولة الأعمال داخل الصين أو استيراد سلع صينية ذات استخدام مزدوج.
ويرى المراقبون أن هذه الرسوم غير المسبوقة قد تؤدي إلى تدمير العلاقات التجارية بين أكبر اقتصادين في العالم، فضلاً عن إلحاق الضرر بمجالات أخرى من العلاقات الثنائية، وسط غياب أي مؤشرات على حلول وشيكة أو رغبة فعلية في التراجع.
هجوم دبلوماسي صيني مضاد
وأكدت الشبكة الأمريكية أنه بدلاً من التواصل المباشر مع ترامب لمحاولة التفاوض، أطلق شي جين بينغ سلسلة من التحركات الدبلوماسية رفيعة المستوى مع شركاء تجاريين آخرين في مسعى واضح لكبح التصعيد التجاري المتزايد.
وتشير تقارير الشبكة الأمريكية إلى أن ترامب ينتظر أن يبادر شي بالاتصال به، لكنه في الوقت ذاته أبلغ فريقه أن الولايات المتحدة لن تتخذ الخطوة الأولى.
ومن جهتها، رفضت بكين مراراً ترتيب مكالمة هاتفية على مستوى القادة.
وجاء لقاء شي مع سانشيز ضمن هذا السياق، وقبل أيام من بدء جولة آسيوية تشمل فيتنام وماليزيا وكمبوديا، وهي أول زيارة خارجية للرئيس الصيني هذا العام، كما أعلنت وزارة الخارجية الصينية. وتُعد هذه الجولة جزءًا من استراتيجية صينية لتعزيز العلاقات مع دول تأثرت بشكل كبير برسوم ترامب، حيث كانت تلك الدول من بين الأهداف الرئيسية للرسوم "المتبادلة" الأمريكية التي جُمّدت مؤقتًا.
ورغم أن ترتيبات مثل هذه الزيارات عادة ما تستغرق أسابيع أو حتى شهور، إلا أن توقيت الإعلان عنها بعد أيام فقط من فرض الرسوم القصوى من الطرفين، يحمل رسالة مفادها أن الصين لا تنوي التراجع أو الانحناء أمام الضغط الأمريكي.
تعزيز التحالفات والتقارب مع أوروبا
يسعى شي جين بينغ إلى الاستفادة من الاضطراب الذي أحدثته سياسات ترامب لتمتين علاقات الصين مع دول من آسيا إلى أوروبا، مقدمًا الصين كطرف موثوق وشريك ملتزم بحماية التجارة العالمية.
ويأتي سانشيز، الذي يزور الصين للمرة الثالثة في عامين، كأول زعيم أوروبي ضمن سلسلة من القادة المتوقع وصولهم إلى بكين في ظل القلق المتزايد من الأزمة الاقتصادية العالمية التي فجرتها الرسوم الأمريكية.
وفي لقائه مع سانشيز، قال شي إن العالم يشهد تغيرات متسارعة لم تحدث منذ قرن، مضيفاً أن "كلما ازدادت تعقيدات وتقلبات المشهد الدولي، ازدادت أهمية الحفاظ على علاقات قوية ومستقرة بين الصين وإسبانيا". كما أكد عزمه على تعزيز التعاون في مجالات الطاقة الجديدة، والصناعات عالية التقنية، والمدن الذكية.
وفي رسالة موجهة إلى الاتحاد الأوروبي، وصفه شي بأنه "قطب مهم في عالم متعدد الأقطاب"، وأكد أن الصين "دعمت بوضوح" الاتحاد الأوروبي في مختلف المناسبات. كما دعا الصين والاتحاد الأوروبي، اللذين يشكلان معًا أكثر من ثلث الاقتصاد العالمي، إلى العمل معًا للدفاع عن النظام الدولي وقواعد التجارة العالمية، مشددًا على ضرورة التصدي لـ"البلطجة الأحادية"، في إشارة غير مباشرة للسياسات الأمريكية.
رؤية صينية لمستقبل مشترك مع الجيران
وأكد شي خلال مؤتمر عمل رفيع المستوى حول الدبلوماسية الإقليمية في الحزب الشيوعي الصيني، أن تعزيز العلاقات الاستراتيجية مع دول الجوار يحتل أولوية قصوى في الأجندة الدبلوماسية الصينية. وقال إن الصين تسعى إلى "بناء مستقبل مشترك مع الدول المجاورة".
وفي بيان رسمي صدر عقب المؤتمر الذي استمر يومين، دعت الصين إلى "تعزيز التعاون في سلاسل الصناعة والإمداد" مع دول آسيا القريبة. وذكر البيان أن علاقات الصين بجيرانها "في أفضل حالاتها منذ العصر الحديث"، لكنها أيضًا تدخل مرحلة حساسة تتشابك فيها الديناميات الإقليمية مع التحولات العالمية.
يُذكر أن كلًا من فيتنام وكمبوديا كانت من بين الدول الأكثر تضررًا من الرسوم الأمريكية، والتي بلغت نسبتها 46% و49% على التوالي قبل أن يتم تعليقها. وقد شهدت هاتان الدولتان زيادة ملحوظة في الاستثمارات الصينية والدولية في السنوات الأخيرة، في إطار إعادة تشكيل سلاسل الإمداد بعيدًا عن الصين، للاستفادة من انخفاض تكاليف العمالة، وللتحوط من تأثير الرسوم الأمريكية.
ورغم الانفتاح الصيني الملحوظ، إلا أن كثيراً من الدول الشريكة تنظر إلى التحركات الصينية بكثير من الحذر. فهي تخشى من إغراق أسواقها بالسلع الرخيصة القادمة من الصين، كما أن بكين معروفة باستخدامها لسوقها الواسعة كأداة ضغط سياسية واقتصادية على الدول التي تتخذ مواقف لا تروق لها.
وتأتي هذه التطورات فيما تواصل الصين سعيها الحثيث لتهدئة الأجواء مع الحلفاء والشركاء الدوليين، خاصة منذ إعادة انتخاب ترامب.
وقد كثف المسؤولون الصينيون محادثاتهم مع نظرائهم في كوريا الجنوبية واليابان ودول أوروبا خلال الأسابيع الأخيرة؛ سعيًا لتعزيز التعاون التجاري وتسجيل نقاط سياسية على حساب الولايات المتحدة، عبر كسب ود حلفاء تقليديين لواشنطن أرهقتهم الحرب التجارية المتقلبة.