دماء ودولارات.. الوجه الآخر للإغاثة في زمن الحرب على غزة
دماء ودولارات.. الوجه الآخر للإغاثة في زمن الحرب على غزة
في وقت يعاني فيه سكان قطاع غزة من تبعات حرب مدمرة استمرت أكثر من عامين، ومع دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في أكتوبر 2025 برعاية أمريكية مصرية قطرية تركية، يعود إلى الواجهة ملف حساس يهز أركان حركة حماس من الداخل، وهو اختلاس ملايين الدولارات من التبرعات الدولية المخصصة لإغاثة المنكوبين، ما بدأ كتحذير داخلي مسرب في يناير 2024، تحول إلى فضيحة علنية تكشف انقسامات عميقة داخل الحركة، ترتبط بصراع تيارات سياسية وعائلية، وعلاقات معقدة مع جماعة الإخوان المسلمين، هذه القضية ليست مجرد اتهامات مالية، بل تعكس صراعًا على النفوذ والموارد في مرحلة ما بعد الحرب، حيث يبحث الجميع عن إعادة بناء السلطة في غزة المدمرة.
اختلاسات إخوانية
القصة بدأت فعليًا قبل سنوات من عملية "طوفان الأقصى" في أكتوبر 2023، عندما رصدت لجان مالية داخل حماس مخالفات في إدارة تبرعات هائلة جمعتها مؤسسات خيرية مقرها تركيا والأردن، تحت شعارات إغاثة للقدس وغزة، وفقًا لمصادر مطلعة داخل الحركة، بلغ حجم الأموال المختلسة ما بين 300 إلى 500 مليون دولار، جمع معظمها خلال ذروة الحرب عبر حملات إعلامية عاطفية استغلت صور الدمار والأطفال اليتامى.
المؤسسات الرئيسية المتهمة هي: "وقف الأمة"، "منبر الأقصى"، و"كلنا مريم"، التي ترتبط تنظيميًا بالجناح الدولي لجماعة الإخوان المسلمين، المصنفة إرهابية في دول عدة مثل: مصر والإمارات والسعودية.
ما جعل القضية متفجرة هو ارتباطها المباشر بقيادات عليا في حماس، يقف خالد مشعل، رئيس مكتب الحركة في الخارج والرئيس السابق لمكتبها السياسي، في صدارة الاتهامات غير المباشرة، إذ تربطه علاقات شخصية وعائلية بإدارة "وقف الأمة".
فمدير المؤسسة أحمد العمري صديق قديم لمشعل، وزوج ابنته أحمد السيد يشغل منصب مدير التسويق فيها، كما ظهر في حملة "وفاءً لغزة" الأخيرة قيادات إخوانية بارزة مثل علي القره داغي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ونائبه محمد ولد الددو، والأمين العام علي الصلابي، ما أثار غضبًا داخل تيار آخر في حماس يقوده خليل الحية، رئيس مكتب غزة والوفد المفاوض.
خيانات داخلية
هذا الخلاف ليس جديدًا، بل يعكس انقسامًا تاريخيًا داخل حماس بين تيار "الخارج" المقرب من الإخوان والمحور التركي- قطري بقيادة مشعل، وتيار "الداخل" الأقرب إلى المحور الإيراني بقيادة الحية والقادة العسكريين.
التيار الأول يفضل التوازن الدبلوماسي والعلاقات مع الدول السنية المعتدلة، بينما الثاني يعتمد على الدعم الإيراني العسكري والمالي.
وقد تفاقم التوتر بعد اتفاق وقف إطلاق النار في أكتوبر 2025، الذي أنهى الحرب لكنه فتح الباب أمام صراع على إعادة إعمار غزة وتوزيع المساعدات الدولية الجديدة، التي تقدر بمليارات الدولارات.
في يناير 2024، سرب تيار الحية بيانًا داخليًا بعنوان "رفع الغطاء عن مؤسسات وأشخاص"، يحذر من هذه الجهات، وكشف أسماء مثل: يزيد نوفل (الاسم الحركي سعيد أبو العبد)، فؤاد الزبيدي، سمير سعيد، وخلدون حجازي، متهمًا إياهم باختلاس أموال اشتروا بها عقارات فاخرة في تركيا وأوروبا.
وردت "وقف الأمة" بدعاوى قضائية في المحاكم التركية، وأجرت تحقيقات داخلية أدت إلى إقالة بعض الموظفين، لكنها لم تعيد الأموال، بل أنشأت كيانات بديلة لاستمرار الجمع، وفي تطور لافت، غادر بعض المتهمين إلى أوروبا وحصلوا على إقامات، مقابل تقديم معلومات أمنية عن شبكات تمويل حماس، ما يشير إلى خيانات داخلية.
تصفية حسابات
من الناحية أخرى، تمثل هذه الفضيحة تحديًا وجوديًا لحماس في مرحلة ما بعد الحرب، فمع اتفاق وقف إطلاق النار الذي ينص على نزع سلاح تدريجي وإدارة انتقالية دولية لغزة، يخشى تيار الحية من أن يستغل مشعل علاقاته مع الإخوان للسيطرة على تدفق المساعدات الجديدة، خاصة مع دعم تركي وقطري قوي.
في المقابل، يرى مراقبون، أن كشف هذه الاختلاسات يأتي في سياق تصفية حسابات داخلية، حيث يسعى التيار الإيراني لإضعاف نفوذ مشعل، الذي يُنظر إليه كـ"حمامة" تفضل التسويات السياسية على المواجهة العسكرية.
ويضيف خبراء في شؤون الجماعات الإسلامية، أن هذا الصراع يعيد إلى الأذهان تاريخ الإخوان في استغلال القضية الفلسطينية لجمع الأموال، كما حدث في حملات سابقة للأقصى والقدس، لكن رفض حماس هذه المرة يشير إلى تحول استراتيجي نحو الاستقلال المالي، خاصة مع الدعم الإيراني المتزايد.
علاوة على ذلك، تثير القضية تساؤلات أخلاقية عميقة حول شفافية المنظمات الإغاثية في المناطق النزاعات.
فقد أظهرت تقارير دولية سابقة، أن نسبة كبيرة من التبرعات لغزة تذهب إلى جيوب وسطاء أو استثمارات خاصة، بدلاً من الإغاثة المباشرة، وفي ظل الدمار الهائل الذي خلفته الحرب – أكثر من 46 ألف قتيل فلسطيني وتدمير 70% من المباني – يصبح اختلاس مئات الملايين جريمة بحق شعب يعاني الجوع والمرض، كما أن تورط شخصيات دينية بارزة في الحملات يفقد الثقة في الخطاب الإنساني الإسلامي، ويدفع المتبرعين لتوجيه أموالهم عبر قنوات رسمية مثل الأمم المتحدة أو الهلال الأحمر.

العرب مباشر
الكلمات