من الأسد إلى الشرع.. كيف تعيد روسيا تموضعها داخل المشهد السوري؟
من الأسد إلى الشرع.. كيف تعيد روسيا تموضعها داخل المشهد السوري؟

في أول زيارة لمسؤول سوري رفيع إلى موسكو منذ سقوط نظام بشار الأسد، فتحت روسيا نافذة دبلوماسية لاحتضان سوريا الجديدة، ولكن بتحفظ محسوب.
وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، خلال لقائه بنظيره السوري أسعد الشيباني، بعث برسائل ذات دلالات تتجاوز المجاملة البروتوكولية، ملوّحًا برغبة روسية في إعادة ترتيب العلاقة مع السلطة الانتقالية التي تشكلت بعد نهاية عقدين من حكم الأسد، التصريحات العلنية للجانبين تعكس محاولة لرسم معالم علاقة "جديدة" قائمة على الشراكة، لا التبعية، بينما تترقب موسكو مآلات التوازنات الإقليمية، وتحتفظ بخطوطها العسكرية ومصالحها الاستراتيجية داخل سوريا، زيارة الشيباني إلى الكرملين قد تكون بداية مسار دبلوماسي مختلف، لكنه مرهون بحذر روسي في التعامل مع مرحلة سورية ما بعد الأسد، ومسعى دمشق الانتقالية لتأكيد استقلالها عن النفوذ الخارجي دون خسارة الحلفاء، ما وراء التصريحات من موسكو ليس أقل أهمية مما قيل، بل ربما يكشف عن قلق روسي من "سوريا لا تشبه الأمس".
*مرحلة جديدة في العلاقات بين دمشق وموسكو*
عكست التصريحات الصادرة من موسكو الخميس، خلال استقبال وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف لنظيره السوري أسعد الشيباني، بداية مرحلة جديدة في العلاقات الروسية السورية، لكنها ليست خالية من التعقيدات. فبينما حيّا لافروف صمود الشعب السوري وتطلع إلى زيارة الرئيس الانتقالي أحمد الشرع لموسكو في أكتوبر، كانت نبرة الخطاب تتسم بالحذر والترقب، أكثر مما تنم عن اندفاعة تحالفية كتلك التي كانت تربط الكرملين بنظام بشار الأسد سابقًا.
من الواضح وفقًا لمراقبين، أن روسيا تحاول التكيّف مع واقع سياسي سوري جديد، فرضه سقوط الأسد نهاية العام الماضي، لكن دون أن تُفرّط في أوراق نفوذها التي راكمتها عبر سنوات من التدخل العسكري والدبلوماسي.
دعوة لافروف للشرع لحضور القمة الروسية العربية في موسكو تمثل خطوة رمزية، لكنها لا تخلو من رسائل متعددة: فهي تعكس استعدادًا مبدئيًا للاعتراف بشرعية القيادة الجديدة، لكنها في الوقت ذاته تبقي الباب مواربًا أمام إمكان التراجع إن خرجت "سوريا الجديدة" عن مسار المصالح الروسية.
*إعادة تطبيع العلاقات*
تصريحات الشيباني بدت محاولة لجس النبض الروسي وإعادة تطبيع العلاقة مع الحليف القديم – ولكن على أسس مختلفة، "نرغب في فتح علاقة سليمة وصحيحة مع روسيا"، قالها الشيباني بلغة سياسية متوازنة، مشيرًا إلى وجود "بعض الحكومات التي تفسد العلاقة" بين البلدين، في إشارة يُعتقد أنها موجهة إلى أطراف إقليمية وغربية تحاول كسب دمشق الجديدة إلى معسكر مغاير.
هذه الإشارات تكشف عن إدراك سوري لأهمية بقاء روسيا على الأقل شريكًا محايدًا، إن لم يكن داعمًا، في مرحلة إعادة الإعمار وترميم الدولة.
*مصالح الكرملين*
من جانبه، يقول المحلل السياسي السوري حسام طالب: ما لم يُذكر صراحة في التصريحات العلنية، هو أن موسكو ما تزال مترددة بشأن شكل العلاقة المقبلة مع القيادة السورية الجديدة.
وأضاف في حديثه لـ"العرب مباشر"، على الرغم من التأكيد الروسي المتكرر على "احترام سيادة سوريا" و"دعم استقرارها"، فإن الأحاديث في الكواليس لا تنفصل عن مصالح الكرملين في الحفاظ على قاعدتي حميميم وطرطوس، وضمان استمرار دورها كفاعل إقليمي أساسي.
في هذا السياق، جاءت تصريحات نائب وزير الخارجية الروسي سيرجي فيرشينين التي شددت على "مراعاة مصالح جميع المكونات الوطنية" في سوريا، كرسالة تحذيرية مبطنة موجهة إلى الحكومة السورية الجديدة لعدم تهميش حلفاء روسيا في الداخل السوري.
اللافت أيضًا، أن موسكو لم تُبدِ أي اعتراض صريح على خطوات السلطة السورية الانتقالية في إعادة ترتيب المشهد السياسي، بما في ذلك محاولات بناء نظام أكثر انفتاحًا وتعددية.
ومع ذلك، فإن موقف روسيا يبدو مشروطًا بأن تتم هذه الخطوات من دون المساس بمصالحها العسكرية أو استبعاد القوى التي كانت جزءًا من شبكة النفوذ السابقة، سواء كانت أمنية أو سياسية أو اقتصادية.
سياسيًا، يمكن قراءة الزيارة بوصفها جزءًا من اختبار متبادل بين موسكو ودمشق الجديدة، فروسيا تريد التأكد من أن القيادة الانتقالية ليست في وارد الانقلاب على التفاهمات السابقة، فيما تسعى سوريا الجديدة إلى طمأنة روسيا مع إعادة التفاوض على أسس العلاقة من موقع مختلف.
أما على المستوى الإقليمي، فإن زيارة الشيباني إلى موسكو تأتي في لحظة دقيقة، حيث تتنافس قوى متعددة على كسب موقع في سوريا ما بعد الأسد.
*صفحة جديدة*
من جهته، يقول المحلل السياسي السوري أحمد رمضان: إن اللقاء بين وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني ونظيره الروسي سيرجي لافروف يمثل محطة مفصلية في إعادة رسم العلاقات السورية الروسية بعد سقوط نظام الأسد.
ويقول رمضان في حديثه لـ"العرب مباشر": إن موسكو تدرك أن استمرار نفوذها في سوريا ما بعد الأسد يتطلب إعادة تعريف العلاقة مع السلطة الجديدة، بعيدًا عن منطق الرعاية الأحادية الذي ساد خلال العقد الماضي.
ويضيف: "روسيا ليست بوارد التخلي عن سوريا، لكنها تسعى لعلاقة أكثر توازنًا، تحمي مصالحها من جهة، وتواكب المتغيرات الإقليمية والدولية من جهة أخرى دعوة الرئيس أحمد الشرع لحضور القمة الروسية العربية تشير إلى رغبة الكرملين في الحفاظ على موقعه في الملف السوري، ولكن عبر أدوات سياسية جديدة وليس فقط عبر القوة العسكرية.
ويعتبر رمضان، أن تصريحات الشيباني حول "فتح صفحة جديدة" تعكس استعدادًا حقيقيًا من دمشق لفرض هوية سيادية مستقلة، مع الانفتاح على شركاء متعددين. لكنه يحذر في الوقت نفسه من أن بعض الأطراف داخل روسيا ما تزال مترددة في التعامل مع السلطة الجديدة، خاصة في ظل التغيرات العميقة في مراكز القرار السوري.
ويختم قائلاً: "العلاقة بين دمشق وموسكو تمر بمرحلة إعادة تموضع دقيقة، قد تُحدد مستقبل النفوذ الروسي في بلاد الشام لعقود قادمة."