جوع تحت القصف.. مأساة إقليم الفونج في قلب الصراع السوداني

جوع تحت القصف.. مأساة إقليم الفونج في قلب الصراع السوداني

جوع تحت القصف.. مأساة إقليم الفونج في قلب الصراع السوداني
الحرب السودانية

في أقصى جنوب شرقي السودان، حيث تمتد الجبال الخضراء وتفيض الأرض بالمعادن والمياه، يعيش إقليم الفونج مفارقة قاسية، ثراء طبيعي يقابله فقر إنساني مزمن. ومع اندلاع الحرب في السودان منذ أبريل 2023، تحوّلت هذه المفارقة إلى مأساة مكتملة الأركان، الإقليم الذي ظل لعقود خارج أولويات الدولة، وجد نفسه فجأة في قلب الصراع العسكري، بلا بنية تحتية تحميه ولا غطاء إنساني يخفف وطأة القصف.


 الغارات الجوية المتكررة، وتعطّل الزراعة، واستهداف مرافق الإغاثة، دفعت مئات الآلاف إلى دائرة الخطر، بينما تتراجع فرص التعليم والعلاج إلى مستويات غير مسبوقة.


إقليم غني وسكان مهمّشون


يقع إقليم الفونج على مسافة غير بعيدة من الحدود الإثيوبية، وبالقرب من مناطق تشكّل شريانًا جغرافيًا مهمًا يربط بين السودان وإثيوبيا وجنوب السودان.

ورغم امتلاكه احتياطات معتبرة من الذهب والفضة والنحاس والكروم، إضافة إلى أراضٍ زراعية خصبة تعتمد على الأمطار الغزيرة، فإن سكانه لم يجنوا يومًا ثمار هذه الثروة.

على مدى عقود، ظل الإقليم خارج خطط التنمية، بلا شبكات طرق كافية، ولا خدمات صحية مستقرة، ولا منظومة تعليم قادرة على استيعاب الأطفال. هذا التهميش البنيوي جعل المنطقة هشّة أمام أي اضطراب أمني، وهو ما ظهر بوضوح مع اندلاع الحرب الحالية.

من التهميش إلى الاستهداف المباشر

مع اتساع رقعة القتال في السودان، انتقل الصراع تدريجيًا إلى مناطق كانت بعيدة نسبيًا عن خطوط النار. وبحكم موقعه الاستراتيجي، دخل إقليم الفونج دائرة الاستهداف، سواء عبر القصف الجوي أو العمليات البرية.

تقارير حقوقية محلية تشير إلى تكرار الغارات الجوية على قرى مأهولة بالسكان، طالت مدارس ومراكز صحية ومخازن غذاء. هذه الضربات لم تكتفِ بإيقاع خسائر بشرية، بل نسفت ما تبقى من بنية خدمية هشة أُنشئت خلال السنوات الأخيرة بجهود محلية ودعم محدود من منظمات إنسانية.

حياة على هامش الدولة


يعيش أكثر من نصف مليون شخص في الإقليم داخل مساكن بدائية، تعتمد على مواد محلية، في ظل غياب شبه كامل للخدمات الأساسية. قبل الحرب، كانت محاولات محدودة تُبذل لتحسين أوضاع التعليم والصحة، لكنها توقفت مع تصاعد العمليات العسكرية.

القصف الجوي دفع كثيرين إلى النزوح داخل الجبال أو إلى مناطق حدودية، بحثًا عن الأمان، ما فاقم من صعوبة وصول المساعدات الإنسانية، وخلق جيوبًا معزولة تعاني نقص الغذاء والدواء.

الأمن الغذائي.. مفارقة الخصوبة والجوع

رغم أن الفونج تُعد من أكثر مناطق السودان خصوبة، فإن الحرب شلّت النشاط الزراعي والرعوي. المزارعون باتوا عاجزين عن الوصول إلى حقولهم خوفًا من الغارات، وتوقفت سلاسل الإمداد، ما أدخل أكثر من 400 ألف شخص في دائرة انعدام الأمن الغذائي.

الأزمة تفاقمت مع استهداف مرافق تابعة لجهات إغاثية، الأمر الذي أدى إلى تعليق برامج دعم كانت تشكّل شريان حياة للآلاف. ومع توقف هذه المساعدات، اضطرت أسر كثيرة إلى إخراج أطفالها من المدارس، أو تقليص وجبات الطعام إلى الحد الأدنى.

التعليم والصحة.. خسائر طويلة الأمد

تدمير المدارس والمراكز الصحية لا يعني فقط خسائر آنية، بل يحمل تبعات ممتدة لسنوات. جيل كامل مهدد بالحرمان من التعليم، في منطقة كانت تعاني أصلًا من معدلات تسرب مرتفعة. 

أما القطاع الصحي، فبات شبه مشلول، مع نقص الكوادر والإمدادات، وصعوبة نقل المصابين إلى مناطق أكثر أمانًا.

هذه الخسائر تضع الإقليم أمام خطر “الانقطاع التنموي”، حيث تتراكم الأزمات وتصبح العودة إلى نقطة البداية أكثر صعوبة حتى بعد توقف الحرب.

سياق تاريخي من العنف

يربط مراقبون ما يحدث اليوم بسياق أوسع من العنف الممتد منذ تسعينيات القرن الماضي، حين استُخدمت شعارات دينية لتبرير حملات عسكرية في مناطق الهامش. هذه الحملات خلّفت إرثًا من القتل والنزوح، وأضعفت البنية الاجتماعية والاقتصادية.

اليوم، مع عودة بعض التشكيلات المسلحة وارتفاع خطاب التعبئة، يخشى سكان الفونج من تكرار السيناريو نفسه، حيث يصبح المدنيون وقودًا لصراع لا يملكون أدوات التأثير فيه.

المدنيون خارج الحسابات

وفقًا للقانون الدولي الإنساني، يُحظر استهداف المدنيين والمنشآت المدنية في النزاعات المسلحة. لكن الوقائع على الأرض تشير إلى نمط متكرر من الضربات التي تطال القرى والأسواق والمدارس.
 خبراء قانونيون يعتبرون أن هذا النمط، إذا ثبت تعمّده، يرقى إلى جرائم حرب، ويستدعي تحقيقات مستقلة ومساءلة دولية.

بين القصف والجوع والنزوح، يقف إقليم الفونج أمام مفترق طرق حاسم. استمرار الحرب يعني تعميق الكارثة الإنسانية، وتحويل منطقة غنية بالموارد إلى بؤرة فقر دائم. أما أي مسار سياسي لا يضع قضايا الهامش في صلبه، فسيعيد إنتاج التهميش بأشكال جديدة.

في ظل هذا الواقع، يبقى سكان الفونج عالقين بين ثراء الأرض وقسوة الحرب، ينتظرون أن يتحول حضورهم في الجغرافيا إلى حضور في حسابات الدولة والمجتمع الدولي.