الإخوان واحتجاجات قابس.. صناعة الفوضى تحت غطاء البيئة
الإخوان واحتجاجات قابس.. صناعة الفوضى تحت غطاء البيئة

بين رائحة الاختناق التي تملأ سماء قابس بسبب التلوث الصناعي، ورائحة التحريض السياسي التي تحاول جماعة الإخوان بثّها في الشارع التونسي، تعيش المحافظة الجنوبية على وقع أزمة متعددة الأبعاد: بيئية واجتماعية وسياسية، ما بدأ كاحتجاجات شعبية مشروعة للمطالبة بحقوق إنسانية أساسية، تحول سريعًا إلى ساحة صراع تحاول فيها حركة النهضة الإخوانية استعادة أنفاسها السياسية بعد أن ضاق عليها المشهد عقب قرارات 25 يوليو 2021، ومع تصاعد الغضب الشعبي ضد التهميش البيئي والصحي الذي تسببه الانبعاثات السامة للمجمع الكيميائي، وجدت الجماعة ضالتها في الانقضاض على أي حراك اجتماعي وتحويله إلى أداة سياسية لزعزعة الاستقرار واستهداف الرئيس قيس سعيد، بين مطالب السكان بالعيش في بيئة نظيفة وحق الصحة، وبين حملة التحريض الإلكتروني التي قادها قياديون في النهضة وعلى رأسهم رفيق عبد السلام.
استراتيجية "الركوب على الأحداث"
في محافظة قابس جنوب شرقي تونس، وعلى بعد أكثر من 400 كيلومتر من العاصمة، يتجدد مشهد الاحتجاجات على التلوث الصناعي الذي أنهك السكان وأصاب أجيالًا كاملة بأمراض تنفسية خطيرة، منذ سبعينيات القرن الماضي ،ومع إنشاء المجمع الكيميائي في منطقة غنوش، باتت البيئة المحلية ضحية لتسرب مواد سامة وانبعاث الغازات الخطرة.
وعلى مدى عقود، ظل الملف معلقًا بين وعود حكومية لم تنفّذ وحلول ترقيعية لم توقف النزيف الصحي والبيئي.
لكن رغم قدم الأزمة، فإن مشهد الاحتجاجات هذه المرة حمل نكهة سياسية واضحة. فبعد أيام من اندلاع التظاهرات العفوية ضد انبعاثات المصنع، بدأت حملات ممنهجة على منصات التواصل الاجتماعي تدعو إلى إسقاط النظام و"إطلاق ثورة جديدة من قابس"، قاد هذه الحملة القيادي الإخواني ووزير الخارجية الأسبق رفيق عبد السلام، صهر راشد الغنوشي، الذي كتب أن "الثورة القادمة ستنطلق من قابس"، لم يكن ذلك تضامنًا مع القضية البيئية، بل محاولة واضحة لاستثمار معاناة السكان في معركة تصفية حسابات سياسية مع السلطة الحالية.
هذا الأسلوب ليس جديدًا على الإخوان في تونس، فكل موجة احتجاج اجتماعي يتم توظيفها سريعًا من قبل الحركة في خطابها وتأطيرها داخل معركتها مع الدولة.
يحدث هذا تمامًا كما كان الحال خلال اضطرابات قفصة وسليانة والكاف سابقًا. وفي قابس اليوم، لم تتأخر الجماعة في تحويل الاحتجاجات البيئية إلى دعوات للعصيان ومواجهات مع قوات الأمن. وظهرت مجموعات تنظم تحركات تعتمد على العنف بإشعال الإطارات وقطع الطرق ومحاولات اقتحام مقرات عمومية.
ووفق مصادر محلية، فإن الصفحات التي حرّضت على التصعيد تُدار من خارج تونس، وهو ما يعزز فرضية وجود توجيه سياسي يخدم أجندة الإخوان العابرة للحدود.
الرد الرئاسي: "لا للتوظيف"
الرئيس التونسي قيس سعيد رد سريعًا على هذه التطورات مؤكدًا أن الدولة لن تسمح بتوظيف الأزمة بيئيًا أو سياسيًا، في كلمة واضحة، قال: إن "ملف قابس ليس للمزايدات"، مضيفًا أن "حقوق التونسيين في الصحة والبيئة مضمونة ولن تكون ورقة ابتزاز من أي جهة".
كما أصدر تعليمات فورية بتشكيل لجنة وزارية لزيارة المعمل الملوث واتخاذ إجراءات عاجلة للحد من الانبعاثات السامة.
هذا التحرك عكس وعي الدولة بمحاولة اختطاف الاحتجاجات وتحويلها إلى فوضى. لكنه في الوقت نفسه كشف عن حجم الإهمال التاريخي الذي عانت منه المحافظة نتيجة سياسات تنموية غير متوازنة وتلاعب سياسي بملفات اجتماعية لم تجد حلولًا حتى الآن.
لماذا قابس.. ولماذا الآن؟
من جانبه، يرى المحلل السياسي التونسي عمر اليفرني، أن قابس ليست مجرد محافظة غاضبة، بل هي منطقة لها رمزية سياسية خاصة، فقد كانت تاريخيًا أحد الخزانات الانتخابية لحركة النهضة، حيث ينتمي إليها عدد من قيادات الصف الأول في الحركة.
ويضيف اليفرني في حديثه لـ"العرب مباشر"، أن عودة الإخوان إلى واجهة التحريض عبر هذه المنطقة ليست مصادفة، بل محاولة لإعادة النفوذ من بوابة اجتماعية حساسة.
وأشار اليفرني إلى مفارقة خطيرة: "الإخوان الذين يحرضون اليوم باسم البيئة، هم أنفسهم الذين تجاهلوا مطلب إغلاق المصنع حين كانوا في الحكم سنوات طويلة، وقدموا مصالحهم الحزبية على الحق البيئي لسكان قابس".
وأضاف: أن ملف التلوث ظل مجمدًا خلال فترة مشاركة النهضة في الحكم، رغم الاحتجاجات التي شهدتها المحافظة منذ 2011.
البعد الاقتصادي والاجتماعي للاحتجاجات
يعمل في المجمع الكيميائي حوالي 4000 عامل، ما يجعل المجتمع المحلي في علاقة معقدة مع المصنع: مصدر رزق قاتل، سكان المنطقة يعيشون بين مطرقة البطالة وسندان الموت البطيء بالتلوث، هذا التعقيد الاجتماعي أتاح للإخوان فرصة استغلال غضب جزء من السكان ضد الدولة، رغم أن الدولة بدأت بالفعل خطوات لإصلاح الملف في إطار خطة بيئية قومية.
القضية الأساسية هنا لم تعد بيئية فقط، بل تحولت إلى معركة وعي: هل يُسمح بتحويل المطالب الاجتماعية العادلة إلى منصة لاختراق الدولة وبث الفوضى؟ وهل يمكن معالجة الملفات الحساسة دون بناء ثقة بين الدولة وسكان المحافظات المهمشة؟ الإجابة تكمن في مقاربة مزدوجة: تنمية عادلة + حسم أمني ضد الفوضى. فلا التنمية دون استقرار، ولا الاستقرار دون عدالة اجتماعية.