الذاكرة الاستعمارية والجغرافيا السياسية.. لماذا لا تهدأ نار باريس والجزائر؟
الذاكرة الاستعمارية والجغرافيا السياسية.. لماذا لا تهدأ نار باريس والجزائر؟

في كل مرة تتهيأ فيها العلاقات الفرنسية الجزائرية للتعافي، تعود الأزمات سريعًا لتأخذ مكانها، كأن الماضي يرفض أن يُدفن، أحدث هذه الأزمات اندلعت على وقع حادثة اختطاف غامضة لمعارض جزائري يقيم في فرنسا، أشعلت فتيل أزمة دبلوماسية جديدة بين البلدين، لتعود لغة الطرد والاتهامات إلى الواجهة، فبينما تصر باريس على استقلال القضاء في التحقيقات، ترى الجزائر أن ما يحدث تجاوزٌ للحدود و"مؤامرة غير مقبولة" ضد سيادتها، إلا أن هذه الحادثة ليست سوى طبقة جديدة في سجل مثقل بالعداوات، يراوح بين إرث استعماري لم يُصفّ بالكامل، وتناقضات سياسية حادة تتعلق بالصحراء الغربية، وحرية التعبير، ومعارضة الخارج. يعود السؤال مجددًا: هل العلاقات بين البلدين محكومة بالدوران في حلقة مفرغة من التصعيدات والانفراجات المؤقتة؟ أم أن ما نشهده هو فصل جديد من صراع طويل بين دولتين لم تتفقا على قراءة الماضي ولا على كتابة المستقبل؟
*قضية شائكة*
تصاعد التوتر بين فرنسا والجزائر مجددًا على خلفية قضية شائكة تمثلت في ما وصفته باريس بمحاولة اختطاف المعارض الجزائري أمير بوخرص، المعروف بلقبه على وسائل التواصل "AmirDZ"، والذي يتمتع بحق اللجوء السياسي في فرنسا منذ عام 2023.
القضية التي فجّرت غضب الجزائر وأعادت الخلافات الثنائية إلى السطح، بدأت بتحقيقات جنائية فرنسية طالت ثلاثة جزائريين بينهم موظف بالقنصلية الجزائرية في باريس.
لم تنتظر الجزائر طويلًا، وردّت بطرد 12 موظفًا دبلوماسيًا فرنسيًا، في خطوة غير مسبوقة منذ سنوات.
وزير الخارجية الفرنسي جان-نويل بارو اعتبر الإجراء الجزائري تصعيدًا غير مبرر، مؤكّدًا أن ما يجري في فرنسا يخضع لمسار قضائي مستقل. إلا أن الجزائر، التي رفضت كل الاتهامات الموجهة إليها، وصفت المسألة بأنها "مؤامرة تهدف إلى تشويه سمعتها"، ملوّحة بارتباط الحادثة بخلافات أعمق مما يبدو.
أمير بوخرص ليس شخصية عادية في هذا السياق، إذ يُعد من أبرز الأصوات المعارضة للنظام الجزائري في الخارج، حيث يتابعه أكثر من مليون شخص على تيك توك وحده.
سبق وأن حُكم عليه في الجزائر بتهم تتعلق بالتشهير والاحتيال، فيما تعتبره السلطات شخصًا خطيرًا تسعى لتسلمه منذ سنوات دون نجاح.
وكان بوخرص قد اختفى لساعات في نهاية أبريل الماضي، قبل أن يظهر مجددًا وتوجّه أصابع الاتهام إلى السلطات الجزائرية بمحاولة اختطافه.
*ملف الصحراء*
الحادثة جاءت في توقيت بالغ الحساسية، بعد أشهر قليلة فقط من أزمة دبلوماسية مشابهة، ففي صيف 2024، كانت الجزائر قد استدعت سفيرها من باريس احتجاجًا على ما وصفته بانحياز فرنسي فاضح للمغرب في ملف الصحراء الغربية، وهو الملف الذي يشكّل أحد أكثر نقاط التوتر حساسية في العلاقات الجزائرية الفرنسية.
فالجزائر التي تدعم جبهة البوليساريو ترى في الدعم الفرنسي للمغرب طعنة دبلوماسية لا تُغتفر، خاصة أن فرنسا عضو دائم في مجلس الأمن الدولي.
ومما زاد الطين بلة، قضية الكاتب المعروف بوعلام صنصال، الذي يحمل الجنسية الفرنسية ويُعرف بمواقفه المثيرة للجدل.
صنصال أُدين في الجزائر بالسجن خمس سنوات بعد تصريحات اعتُبرت مسيئة للوحدة الوطنية، على قناة يمينية متطرفة.
أثارت القضية عاصفة من ردود الفعل في باريس، وصلت إلى قصر الإليزيه، حيث طالب الرئيس إيمانويل ماكرون بالإفراج عنه علنًا.
من جانبهم، يرى مراقبون، أن التوتر بين الجزائر وفرنسا يتجاوز الأحداث المعزولة، ليعكس خللًا بنيويًا في العلاقة بين مستعمِر سابق ودولة ما تزال تبحث عن تموضعها السيادي، فالإرث الاستعماري لم يُحسم بعد، لا على مستوى الذاكرة، ولا من خلال الملفات المفتوحة، كما أن التباين في المواقف من قضايا إقليمية مثل الصحراء الغربية، وملفات الحريات، يزيد من هشاشة العلاقة.
*حسابات معقدة*
اليمين الفرنسي، خاصة جناح مارين لوبان، يستغل كل توتر مع الجزائر للمطالبة بسياسات أكثر صرامة، وهو ما يُعقّد حسابات ماكرون الذي يحاول الموازنة بين الضرورات الجيوسياسية والضغوط الداخلية.
وفي الجزائر، يبدو أن السلطة توظّف هذه التوترات أيضًا لتوجيه الرأي العام الداخلي بعيدًا عن أزماتها الاقتصادية والاجتماعية الخانقة، في بلد يعاني من بطالة مرتفعة وأمية مزمنة، بحسب تقارير أوروبية.
من جانبه، يقول د.محمد بن خروف، رئيس رابطة الكفاءات الجزائرية بالخارج: إن الفرصة بالطبع ما تزال متاحة لتصحيح المسار بين الطرفين، لأن العلاقات الدولية تربطها اتفاقيات ومواثيق.
ويضيف بن خروف في حديثه لـ"مونت كارلو"، إنه على الرغم من أن العلاقة لم تشهد توازنا منذ الاستقلال، إلا أنها كانت دائما تصل إلى مرحلة واحدة وهي طي الخلافات والعمل على فتح صفحة جديدة، لأن ما يشرك البلدين من واقع مشترك إلى جانب الجالية الجزائرية أو الفرنكو الجزائرية في فرنسا، هذه الجالية هي من سيتمكن من وضع أو تغيير الموازين بين الجزائر وفرنسا.
ويتسائل في قضية اختطاف أحد المعارضين في فرنسا بأنه من هم هؤلاء المعارضين؟ ومن صنع منهم هذه الشخصية الكاريزماتية للمعارضة؟ تساؤلات يطرحها الجانب الجزائري، على حد تعبيره.