حسابات القوة والتراجع.. ماذا وراء قرار خفض القوات الأمريكية؟
حسابات القوة والتراجع.. ماذا وراء قرار خفض القوات الأمريكية؟

بين الترقب والحذر، تقف الساحة السورية على عتبة تحول استراتيجي جديد، مع اقتراب الولايات المتحدة من تقليص وجودها العسكري في البلاد، خطوة لم تأتِ من فراغ، بل تعكس ديناميكيات متشابكة بين الداخل الأمريكي والتحولات الإقليمية المتسارعة، ففي وقت تزداد فيه الضغوط السياسية على واشنطن لإعادة ترتيب أولوياتها الخارجية، يأتي الحديث عن تقليص القوات الأمريكية في سوريا إلى النصف تقريبًا، ليطرح أسئلة مصيرية هل هو انسحاب تدريجي يسبق الانكفاء التام، أم إعادة تموضع محسوبة ضمن استراتيجية أوسع تشمل إيران وشرق المتوسط؟
وبينما تراقب تل أبيب تحركات حليفتها الكبرى بقلق، تُثار مخاوف من أن تُشجّع هذه الخطوة أطرافًا إقليمية على تعزيز نفوذها في الفراغ المحتمل.
*انسحاب تدريجي أم تقليص استراتيجي؟*
أفادت تقارير أميركية مؤخرًا، بأن وزارة الدفاع الأميركية تعكف على مراجعة عميقة لوجودها العسكري في سوريا، تمهيدًا لمرحلة جديدة قد تشهد تقليص عدد قواتها إلى حدود الألف جندي.
ووفقًا لمسؤولين أميركيين مطلعين على الخطة، فإن هذه الخطوة تأتي في إطار دمج القوات المنتشرة في الشمال السوري، دون أن تعني انسحابًا كاملاً على المدى القريب.
أحد هؤلاء المسؤولين، الذي تحدّث بشرط عدم الإفصاح عن هويته، أكد أن الهدف من عملية الدمج هو خفض العدد الإجمالي للقوات، لكنه أقرّ بعدم وجود قرار نهائي بشأن عدد الجنود الذين سيبقون.
في المقابل، أشار مسؤول آخر إلى أن الخطة ما تزال قابلة للتعديل في ضوء المستجدات الجيوسياسية في المنطقة، وفق ما نقلت وكالة رويترز.
*تحولات في أولويات واشنطن العسكرية*
هذا التطور يأتي بالتزامن مع مراجعة شاملة لانتشار القوات الأميركية في الخارج، أجراها وزير الدفاع بيت هيغسيث، في محاولة لإعادة ضبط التوازن بين المصالح الاستراتيجية والتحديات الداخلية.
وفي الوقت الذي تعلن فيه واشنطن استعدادها لتقليص وجودها في سوريا، تُظهر مؤشرات أخرى عكس ذلك.
فقد شهدت الأسابيع الأخيرة تعزيزًا للوجود العسكري الأميركي في مناطق عدة، من خلال نشر قاذفات "بي-2" وسفن حربية وأنظمة دفاع جوي. هذا التناقض الظاهري يعكس ما يُشبه استراتيجية "الردع دون التورط"، أي الحفاظ على النفوذ دون التورط في حروب مفتوحة أو التزامات مكلفة.
*قلق إسرائيلي... و"شهية تركية" مفتوحة*
القرار الأميركي أثار قلقًا إسرائيليًا واضحًا، بحسب ما أفاد به مسؤول أمني إسرائيلي لوسائل إعلام غربية.
إسرائيل ترى أن الانسحاب، حتى لو جزئيًا، قد يفتح الباب أمام تركيا لتوسيع نفوذها في المناطق الشمالية السورية، وهو ما قد ينعكس سلبًا على المصالح الإسرائيلية، خاصة في ظل التوتر المزمن بين أنقرة وتل أبيب.
التحذيرات الإسرائيلية لم تأت من فراغ، فتركيا لطالما عبّرت عن نيتها توسيع نطاق سيطرتها على الحدود الجنوبية، بذريعة مواجهة الجماعات الكردية المسلحة، التي تعتبرها تهديدًا لأمنها القومي.
ومع احتمال تراجع الدور الأميركي، تبدو الفرصة سانحة أمام أنقرة لإعادة رسم خرائط السيطرة العسكرية في شمال سوريا.
*قسد بين المطرقة والسندان*
على الأرض، تبقى قوات سوريا الديمقراطية "قسد" هي الأكثر تأثرًا بأي قرار أميركي بالانسحاب.
فهذه القوات، التي تشكلت بغالبيتها من المقاتلين الأكراد، تعتمد على الدعم العسكري الأميركي في عملياتها ضد بقايا تنظيم "داعش"، وفي مواجهة التهديدات التركية.
الانسحاب الأميركي سيضع "قسد" في موقف حرج، بين عداء تركي معلن، وفتور أميركي متزايد، ولامبالاة دمشقية تقليدية.
كما أن غياب الغطاء الجوي الأميركي قد يُسهل هجمات متفرقة لعناصر التنظيم المتطرف، الذين لا يزالون ينشطون في جيوب صحراوية نائية، رغم تراجعهم العسكري.
*رهانات العقوبات والمفاوضات مع دمشق*
في الخلفية، هناك بعدٌ دبلوماسي آخر لا يقل أهمية، يتعلق بتعاطي واشنطن مع النظام السوري، ففي مارس الماضي، طرحت الإدارة الأميركية قائمة شروط على دمشق مقابل تخفيف بعض العقوبات المفروضة بموجب "قانون قيصر"، إلا أن الاستجابة السورية كانت محدودة، ما دفع واشنطن إلى تجميد مسار التفاوض.
تبدو الإدارة الأميركية اليوم عالقة بين رغبتها في الانسحاب من مستنقع مكلف، والحفاظ على أدوات الضغط التي تمكّنها من التأثير في مستقبل سوريا.
فالعقوبات وحدها لم تُجدِ نفعًا والوجود العسكري بات عبئًا سياسيًا في الداخل الأميركي، في وقت يزداد فيه الضغط الشعبي للتركيز على القضايا الداخلية.