حفار القبور السوري يكشف هويته.. شاهد عيان على جريمة العصر
حفار القبور السوري يكشف هويته.. شاهد عيان على جريمة العصر

بعد سنوات من الغموض والتخفي، خرج أحد أبرز الشهود على الجرائم المرتكبة في سوريا عن صمته، كاشفًا هويته أمام العالم، ليضع اسمه في قلب واحدة من أبشع المآسي الإنسانية في القرن الحادي والعشرين.
محمد عفيف نايفة، المعروف بلقب "حفّار القبور"، الرجل الذي عايش الموت بكل تفاصيله، ولم يكن له خيار سوى أن يكون شاهدًا على جثث الضحايا المجهولة، التي دفنت تحت الأرض بصمت النظام.
في مداخلة مؤثرة أمام المؤتمر العربي بجامعة هارفارد الأميركية، كشف نايفة عن هويته لأول مرة، متحديًا الخوف والملاحقة، ومعلنًا عن الدور الخطير الذي اضطلع به في توثيق جرائم النظام السوري ضد المعتقلين والمعارضين، منذ اندلاع الثورة السورية في مارس 2011 وحتى مغادرته البلاد في أكتوبر 2018.
من حفرة الموت إلى منصة الشهادة
نايفة، ابن العاصمة دمشق، لم يكن في يوم من الأيام سوى عامل بسيط أُجبر على لعب دور مركزي في آلة الموت التي أدارها نظام بشار الأسد. عمله، الذي ظاهره مهني، كان في الحقيقة غارقًا في الجريمة، إذ كُلف بدفن آلاف الجثث التي وصلت من فروع الأمن والمستشفيات العسكرية، دون أن يعرف أصحابها أو يسأل عنهم أحد.
بحسب شهادته، كانت الجثث تنقل في شاحنات مبردة، وتصل في حالة تعفن شديد، وعلى كثير منها آثار تعذيب وتشويه، وبعضها لأطفال، لم تكن تلك الجثث تحمل أسماء، بل أرقامًا فقط، في دلالة صارخة على حجم الجريمة والتجريد من الإنسانية.
يقول نايفة: إن الشاحنات كانت تصل مرتين في الأسبوع، حاملةً ما بين 300 إلى 600 جثة في كل مرة، في عملية منظمة وممنهجة لإخفاء أدلة القتل الجماعي، ودفن الضحايا في مقابر جماعية غير موثقة.
شهادة تكشف المستور
في يناير 2022، بثت قناة الجزيرة فيلمًا وثائقيًا حول "حفار القبور"، كشف خلاله نايفة عن تفاصيل صادمة، مدعمة بالأدلة والصور التي سربها الضابط المنشق المعروف بـ"قيصر"، والذي كشف هو الآخر هويته لاحقًا، بأنه المساعد أول فريد المذهان، رئيس قلم الأدلة القضائية بالشرطة العسكرية في دمشق.
الوثائق التي قدمها نايفة، إلى جانب شهادة "قيصر"، ساهمت في بناء ملف قانوني ضخم ضد النظام السوري، ووثقت جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، دفعت الولايات المتحدة وأوروبا إلى فرض عقوبات على كبار المسؤولين في النظام، وأعادت فتح ملف سوريا في أروقة العدالة الدولية.
في شهادته أمام الكونغرس الأميركي ومحكمة جرائم الحرب في ألمانيا، طالب نايفة بمحاسبة كل من ارتكب جرائم بحق السوريين، وشدد على أن العدالة يجب ألا تسقط بالتقادم.
ورغم سقوط النظام السوري في ديسمبر 2024 بعد سيطرة الفصائل المعارضة على دمشق، إلا أن المعاناة ما تزال قائمة، بفعل العقوبات الدولية التي طالت الشعب، على حد وصفه.
وأشار نايفة، أن السوريين ما يزالون يعيشون تداعيات تلك العقوبات، داعيًا إلى إعادة النظر فيها دون التنازل عن ضرورة المحاسبة.
لم يكن محمد عفيف نايفة مجرد موظف دفن، بل كان شاهدًا حيًا على جريمة العصر، وواحدًا من الأصوات القليلة التي اخترقت جدار الصمت لتروي للعالم تفاصيل ما كان يحدث خلف الجدران العالية لسجون النظام.
شجاعته في الكشف عن هويته، وحرصه على تقديم الشهادة أمام المحافل الدولية، يجعلان منه رمزًا للعدالة المؤجلة، وصوتًا يصرخ من تحت الأرض مطالبًا بأن يسمع.