ريفييرا الشرق الأوسط.. رهان أمريكي على الاقتصاد لصناعة السلام في غزة
ريفييرا الشرق الأوسط.. رهان أمريكي على الاقتصاد لصناعة السلام في غزة
بين أنقاض مدينة أنهكتها الحروب وتعقيدات السياسة، تطفو على السطح رؤية أمريكية طموحة تسعى لإعادة تعريف مستقبل غزة، لا بوصفها بؤرة صراع مزمن، بل كواجهة ساحلية حديثة تعجّ بالاستثمار والسياحة والتكنولوجيا، خطة تحمل اسمًا شاعريًا "شروق الشمس" لكنها محمّلة بأسئلة ثقيلة تتجاوز الصور اللامعة والعروض التقديمية المصقولة، فبينما تتحدث الوثائق عن قطارات فائقة السرعة ومنتجعات فاخرة وشبكات ذكية مدعومة بالذكاء الاصطناعي، يظل الواقع الأمني والإنساني والسياسي لغزة عقبة كأداء أمام أي تصور مستقبلي، هذه الخطة، التي صاغها فريق مقرب من البيت الأبيض في عهد دونالد ترامب، تعكس مقاربة أمريكية ترى في إعادة الإعمار بوابة محتملة لتسوية أوسع، لكنها في الوقت ذاته تضع شروطًا صارمة وتفترض مسارات غير مضمونة في منطقة اعتادت المفاجآت.
تحول جذري
تكشف وثائق اطلعت عليها دوائر سياسية وإعلامية في واشنطن عن مشروع أمريكي واسع النطاق لإعادة إعمار غزة تحت مسمى "شروق الشمس"، وهو تصور يسعى إلى نقل القطاع من اقتصاد الإغاثة إلى نموذج استثماري طويل الأمد.
ووفقًا لما نُقل عن مصادر مطلعة، فإن الخطة جرى إعدادها خلال نحو 45 يومًا، بمشاركة شخصيات بارزة من فريق ترامب، من بينهم جاريد كوشنر، مبعوث الشرق الأوسط السابق، وستيف ويتكوف، إلى جانب مسؤولين أمريكيين وخبراء من القطاع الخاص ومقاولين دوليين، بحسب صحيفة "وول ستريت جورنال".
الوثيقة، المؤلفة من 32 شريحة عرض، تقدم سردية تحول جذري، إسكان حديث بدل المخيمات، اقتصاد خدمات بدل الاعتماد على المساعدات، وبنية تحتية ذكية تحاكي نماذج مدن المستقبل. إلا أن الخطة وُصفت رسميًا بأنها "حساسة وغير نهائية"، وتفتقر إلى إجابات حاسمة حول هوية الممولين الرئيسيين أو مصير نحو مليوني فلسطيني خلال سنوات الإعمار الأولى.
أزمة التمويل
ماليًا، تُقدَّر كلفة المشروع بنحو 112.1 مليار دولار على مدى عقد كامل، وتعرض الولايات المتحدة لعب دور "المرساة" عبر توفير ما يقارب 60 مليار دولار في شكل منح وضمانات ديون، مع افتراض أن غزة ستتمكن لاحقًا من تمويل جزء من احتياجاتها عبر عوائد الاستثمار، لا سيما من الأملاك الساحلية الفاخرة التي تُقدّر عوائدها طويلة الأجل بأكثر من 55 مليار دولار. كما يبرز دور محتمل للبنك الدولي وشركاء مانحين لم يُسمَّوا.
غير أن الطموح الاقتصادي يصطدم مباشرة بالواقع الأمني، فالخطة تضع نزع سلاح حركة حماس كشرط مسبق لا لبس فيه، مرفقًا بخط أحمر بارز في الصفحات الأولى، وتشير التقديرات إلى وجود نحو 10 آلاف جثة تحت ما يقارب 68 مليون طن من الركام، فضلًا عن تلوث الأرض بالذخائر غير المنفجرة وشبكة الأنفاق الواسعة، هذه المعطيات تجعل من مرحلة "التطهير" إزالة الأنقاض والذخائر والأنفاق مهمة معقدة ومكلفة قبل أي بناء فعلي.
بناء دولة
سياسيًا، تثير الخطة انقسامًا واضحًا حتى داخل الدوائر الأمريكية، فبينما يرى مؤيدوها أن ترك غزة في فراغ إنساني وأمني خيار أسوأ، يشكك منتقدون في قابلية تنفيذها، ستيفن كوك، الباحث في مجلس العلاقات الخارجية، يلخص هذا الشك بقوله إن العروض التقديمية لا تغيّر الحقائق على الأرض، وإن إسرائيل لا ترى أفقًا يتجاوز الوضع الراهن في غياب نزع سلاح حماس، وهو ما يستبعد حدوثه قريبًا.
خارطة الطريق المقترحة تمتد لأكثر من 20 عامًا، وتبدأ بإجراءات إسعافية، ملاجئ مؤقتة، مستشفيات ميدانية، وعيادات متنقلة، ثم ينتقل المشروع إلى بناء تدريجي للمساكن والبنية التحتية والمؤسسات التعليمية والدينية، التنفيذ مقسّم إلى أربع مراحل جغرافية، تنطلق من جنوب القطاع رفح وخان يونس قبل التمدد شمالًا نحو المخيمات الوسطى ثم مدينة غزة.
وتُخصص إحدى الشرائح التفصيلية لـ"رفح الجديدة"، التي يُراد لها أن تكون مركزًا إداريًا يضم أكثر من نصف مليون نسمة، مع مئات المدارس والمرافق الطبية والمساجد والمراكز الثقافية، هذا التصور يقترب من نموذج "بناء الدولة"، رغم إصرار بعض مسؤولي ترامب على نفي هذا الوصف، لكن كوك وآخرين يرون أن إعادة تشكيل المؤسسات والحوكمة والبنية الاقتصادية هو، بحكم الواقع، عملية بناء دولة كاملة الأركان.
الخطة مشروطة أيضًا بمسار سياسي ثلاثي المراحل: إطلاق سراح الرهائن المتبقين، انسحاب القوات الإسرائيلية وتسليم السلاح، ثم بدء إعادة الإعمار متعددة السنوات.
وحتى يتحقق ذلك، تبقى "شروق الشمس" رؤية معلّقة بين التفاؤل الهندسي وتعقيدات السياسة، تعكس أكثر ما تعكسه إيمانًا أمريكيًا بأن الاقتصاد قد يكون مفتاحًا للسلام، وإن كان هذا المفتاح ما يزال بعيدًا عن القفل.

العرب مباشر
الكلمات