ضربة انتقام لا حرب شاملة.. كيف تخوض واشنطن معركتها الجديدة ضد داعش في سوريا؟
ضربة انتقام لا حرب شاملة.. كيف تخوض واشنطن معركتها الجديدة ضد داعش في سوريا؟
في سماء البادية السورية، عادت الطائرات الحربية الأميركية لترسم مسارًا جديدًا من النار والدقة، في عملية لا تبدو عابرة ولا محدودة الأثر، فـ"ضربة عين الصقر"، كما أطلقت عليها وزارة الدفاع الأميركية، ليست مجرد رد عسكري تقليدي، بل رسالة متعددة الطبقات، تتقاطع فيها حسابات الثأر، واستعادة الردع، ومنع تنظيم داعش من التقاط أنفاسه مجددًا في فراغات الجغرافيا السورية، العملية التي بدأت بضربات مكثفة ومتزامنة، جاءت بعد هجوم دامٍ استهدف القوات الأميركية قرب مدينة تدمر، وأسفر عن مقتل جنود ومترجم مدني، ما أعاد إلى الواجهة سؤالًا ظل حاضرًا منذ هزيمة التنظيم: هل انتهى داعش فعلًا أم أنه يعيد التموضع ببطء؟
وبين تأكيدات واشنطن أن ما يجري «ليس بداية حرب»، وإشارات واضحة إلى أن الضربات قد تمتد لأسابيع، تبدو «عين الصقر» بمثابة فصل جديد في معركة لم تُطوَ صفحتها بعد.
الانتقام الأمريكي
منذ اللحظة الأولى للإعلان عن العملية، حرصت وزارة الدفاع الأميركية على ضبط توصيفها السياسي والعسكري، وزير الدفاع بيت هيغسيث وصف الضربات بأنها إعلان انتقام لا مقدمة لحرب شاملة، في محاولة لاحتواء أي تصعيد إقليمي محتمل، مع الإبقاء على هامش واسع للتحرك العسكري داخل سوريا. غير أن طبيعة الأهداف، وحجم الذخائر المستخدمة، والمدة المتوقعة للعملية، تشير إلى أن واشنطن تخوض حملة استنزاف محسوبة ضد خلايا تنظيم داعش، لا مجرد رد سريع على حادث أمني.
بحسب مسؤولين أميركيين، ركزت عين الصقر على مناطق في وسط سوريا، حيث تشير تقديرات الاستخبارات إلى محاولات حثيثة من التنظيم لإعادة بناء شبكاته، مستفيدًا من تعقيدات المشهد الأمني وتعدد القوى الفاعلة على الأرض، هذه المناطق، الممتدة في عمق البادية، لطالما شكّلت ملاذًا طبيعيًا لعناصر التنظيم، سواء للتخفي أو لإطلاق عمليات مباغتة ضد قوات محلية ودولية.
الأسلحة المستخدمة
اللافت في العملية هو تنوع الترسانة المستخدمة، ما يعكس رغبة في تحقيق تفوق ناري شامل، فقد شاركت مقاتلات من طراز F-15، المعروفة بقدرتها على تنفيذ ضربات دقيقة بعيدة المدى، إلى جانب طائرات A-10 المتخصصة في الإسناد الجوي القريب واستهداف الأهداف الأرضية الثقيلة.
كما أُقحمت مروحيات أباتشي الهجومية، القادرة على العمل في بيئات معقدة وتوفير دعم مباشر للقوات البرية، إضافة إلى راجمات الصواريخ المتحركة هيمارس، التي تتيح توجيه ضربات سريعة وعالية الدقة دون الحاجة إلى تمركز ثابت.
ووفق القيادة المركزية الأميركية، استخدمت القوات أكثر من 100 ذخيرة دقيقة، استهدفت بنية داعش التحتية، من مخازن أسلحة ومراكز قيادة وتحرك، إلى مواقع يُشتبه باستخدامها كنقاط تجمع أو عبور.
وأكد مسؤولون، أن الضربات أصابت ما يزيد على 70 هدفًا، في مؤشر على اتساع نطاق العملية مقارنة بضربات سابقة كانت تتسم بالانتقائية الشديدة.
التوقيت لا يقل أهمية عن الأدوات، فالعملية جاءت بعد هجوم 13 ديسمبر قرب تدمر، الذي أسفر عن مقتل جنديين أميركيين من الحرس الوطني لولاية أيوا، إلى جانب مترجم مدني، وإصابة آخرين، هذا الهجوم أعاد إلى الواجهة هشاشة الوضع الأمني، حتى في المناطق التي تُعد تحت مراقبة لصيقة من القوات الأميركية وشركائها.
كما كشف، بحسب رواية السلطات السورية، عن اختراق خطير تمثل بانضمام المهاجم إلى قوات الأمن الداخلي كحارس قاعدة، قبل الاشتباه بعلاقته بداعش ونقله إلى موقع آخر.
العملية تتجاوز الانتقام والرد
من الناحية السياسية، سعت إدارة الرئيس دونالد ترامب إلى إظهار العملية كجزء من وفاء بالوعود، نائبة المتحدث باسم البيت الأبيض، آنا كيلي، أكدت أن الرئيس كان قد تعهد بالرد على مقتل الأميركيين، وأن ما يجري هو تنفيذ مباشر لهذا التعهد.
ترامب نفسه ذهب أبعد من ذلك، حين أعلن أن الحكومة السورية تؤيد الضربات بالكامل، في تصريح يفتح بابًا واسعًا للتأويل حول مستوى التنسيق، أو على الأقل التفاهم الضمني، بين الطرفين في ملف محاربة داعش.
غير أن البعد الأعمق للعملية يتجاوز الرد والانتقام، فواشنطن تدرك أن أي عودة قوية لداعش، حتى على شكل خلايا متناثرة، تمثل تهديدًا مزدوجًا أمنيًا مباشرًا لقواتها المنتشرة في سوريا، وسياسيًا لخطابها القائل "إن التنظيم هُزم ولم يعد قادرًا على تهديد الاستقرار الإقليمي".
لذلك، تبدو وفقًا لمراقبين أن عملية عين الصقر محاولة استباقية لقطع الطريق أمام إعادة التشكل، عبر ضربات متواصلة قد تمتد لأسابيع أو حتى شهر، وفق تسريبات لمسؤولين تحدثوا لوسائل إعلام أميركية.
في المحصلة، تعكس العملية مزيجًا من القوة العسكرية والرسائل السياسية، فهي من جهة تذكير صارم بأن الولايات المتحدة ما تزال حاضرة وقادرة على الضرب بعمق، ومن جهة أخرى اعتراف غير مباشر بأن ملف داعش لم يُغلق نهائيًا، وأن الحرب عليه دخلت مرحلة جديدة أقل صخبًا، لكنها أكثر تعقيدًا واستنزافًا.

العرب مباشر
الكلمات