مصابو بيروت: نحن الأكثر حظًا بين ضحايا الانفجار والقطاع الصحي يحتاج لمعجزة
آلاف المصابين سقطوا منذ انفجار مرفأ بيروت واختلفت إصاباتهم ما بين إصابات سطحية وإصابات فادحة بعضهم فقد أطرافه وآخرون فقدوا نعمة البصر، وكان آخِر ما رأوه هو الانفجار الهائل الذي غير ملامح بيروت وترك لبنان في حالة يرثى لها واضعًا بصمة قد تدوم لعشرات السنين، الغضب الشعبي أطاح بالحكومة اللبنانية بعد أن وجد عشرات الآلاف من أهل بيروت أنفسهم مشردين في الشوارع بعد أن امتلأت المستشفيات عن آخِرها ويعيشون أسوأ أيامهم في خوف دائم من سيناريوهات ما بعد الحادث الذي جاء ليزيد الأوضاع اللبنانية تأزمًا ويضع لبنان على حافة مجاعة ستأكل الأخضر واليابس.
رغم مرور أسبوعين: أعداد القتلى تزداد وما زال 30 شخصًا في عداد المفقودين
وتسبّب انفجار المرفأ المروع في 4 أغسطس بمقتل 177 شخصاً وحوّل بيروت مدينة منكوبة بعدما تشرّد نحو 300 ألف من سكانها، عدا عن إصابة أكثر من 6500 شخص، تشوّهت وجوه عدد منهم خصوصاً جراء تساقط الزجاج وتناثره.
ويعاني 400 شخص على الأقل من إصابات في العين، تطلبت أكثر من 50 منها تدخلاً جراحياً، وأصيب 15 شخصاً على الأقل بعمى دائم في عين واحدة، وفقاً لبيانات جمعتها المستشفيات الكبرى في بيروت ومحيطها.
وأعلنت وزارة الصحة اللبنانية، عن الحصيلة النهائية لضحايا الانفجار الذي هز مرفأ بيروت، وخلف دمارًا واسعًا في أجزاء كبيرة من العاصمة، إن عدد قتلى انفجار مرفأ بيروت ارتفع إلى 177 شخصًا، في حين لا يزال 30 آخرون في عداد المفقودين، في وقت تواصل فِرَق الإنقاذ البحث في المكان.
وأشارت الوزارة إلى أن 100 مصاب من جراء الانفجار، الذي أدى إلى جرح أكثر من 6500 شخص، لا يزالون يتلقون العلاج في غرف العناية المركزة في مستشفيات عدة في البلاد.
محققون دوليون على رأسهم فريق من الـ"FBI" يسعون لكشف غموض التفجير
يشارك محققون من عدة دول حول العالم لكشف الغموض حول انفجار مرفأ بيروت على رأسهم فِرَق أمنية فرنسية وفريق تحقيق من مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي FBI، حيث أعلن مساعد وزير الخارجية الأميركي للشؤون السياسية "ديفيد هيل" بعد وصوله إلى بيروت، أن فريقًا من مكتب التحقيقات الفيدرالي سينضم لفريق التحقيق الذي ينظر في ملف انفجار المرفأ المدمر.
وقال "هيل" أثناء تفقده سيرًا على الأقدام منطقة الجميزة المتضررة "سينضم مكتب التحقيقات الفيدرالي قريبًا إلى المحققين اللبنانيين والأجانب، للمساعدة في الإجابة على الأسئلة التي أعرف أن كل شخص يطرحها إزاء الظروف التي أدت إلى هذا الانفجار".
ولم تعلن السلطات توصُّلها إلى أي نتائج بعد حول مسببات الانفجار الذي وقع داخل العنبر 12 حيث كانت كميات هائلة من نيترات الأمونيوم مخزّنة منذ ست سنوات بعد مصادرتها من إحدى السفن.
وأوقفت السلطات اللبنانية نحو عشرين شخصًا من القيمين على مرفأ بيروت، بينهم رئيس مجلس إدارته والمدير العامّ للجمارك الحالي والسابق على ذمة التحقيق. وتستمع النيابة العامة التمييزية بدءًا من الجمعة إلى أربعة وزراء أشغال تعاقبوا على المسؤولية ووزراء آخرين.
ووصل "هيل"، الذي قدّمت بلاده 18 مليون دولار كمساعدات إنسانية عاجلة عقب الانفجار، إلى بيروت الخميس في زيارة تستمر حتى السبت، وعلى جدول أعماله الجمعة لقاءات مع مسؤولين سياسيين ورجال دين وشباب وممثلين عن المجتمع المدني.
وقال الدبلوماسي الأميركي الذي استمع إلى شروحات مسهبة من شبان متطوعين في أعمال رفع الأنقاض والإغاثة: إن بلاده "مستعدة لدعم حكومة لبنانية تعكس إرادة الشعب وتستجيب لها وتلتزم وتعمل بصدق من أجل تغيير حقيقي".
انفجار المرفأ أخرج نصف مرافق بيروت الصحية من الخدمة
من جانبها كشفت منظمة الصحة العالمية خروج أكثر من 50 في المئة من المستشفيات والمراكز الصحية في بيروت من الخدمة، بسبب انفجار المرفأ المدمر، وقال ريتشارد برينان، مدير الطوارئ للمكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية بشرق المتوسط في القاهرة: "بعد تقييم 55 مستشفى ومركزًا صحيًا في العاصمة اللبنانية نعلم الآن أن أكثر من 50 بالمائة لا تعمل". مضيفًا أن ثلاثة من المستشفيات الكبرى على الأقل في بيروت تعطلت بسبب الانفجار وثلاثة مستشفيات أخرى تعمل بطاقة أقل من المعتاد، موضحًا أن لبنان فقدت أكثر من 500 سرير رعاية.
وكان مشهد المستشفيات مروعًا بعد الانفجار، إذ تدفق الجرحى إلى مستشفى القديس "جاورجيوس" الذي اضطر لإجلاء كل مرضاه، وقتل فيه عدد من أفراد طاقمه الطبي. بينما انتظر مصابون لوقت طويل دورهم أمام مستشفى كليمنصو لتلقي العلاج.
واضطر عدد من الجرحى إلى الانتقال من مستشفى إلى آخر وصولا إلى مستشفيات بعيدة جدًا عن العاصمة للحصول على العلاج، بسبب عدم قدرة مستشفيات بيروت على الاستيعاب وإعطائها الأولوية للحالات الحرجة.
وطالب مسؤول منظمة الصحة العالمية السلطات اللبنانية بـ"إعادة تشغيل هذه المرافق الصحية بأسرع ما يمكن حتى تتمكن من تلبية الاحتياجات الناجمة عن جائحة كورونا بالإضافة إلى احتياجات المجتمع الصحية الأساسية الأخرى".
وجاء الانفجار ليضاف إلى أزمة اللبنانيين المعيشية، إذ تعاني البلاد من أسوأ انهيار اقتصادي في تاريخها والذي تفاقم نتيجة تدابير الإغلاق العام جراء وباء كورونا الذي سجّلت الإصابات به معدلاً قياسياً الثلاثاء بأكثر من 300 حالة.
فقدت عيني اليمنى.. ومع ذلك أنا "محظوظ" والقطاع الصحي يحتاج لإنقاذه
يقول "مارسيل عجلان"، 43 عامًا، فقدت عيني اليمنى ورغم ذلك أجد نفسي محظوظًا، فهناك آلاف المصابين الذين فقدوا أكثر من ذلك بكثير، بالإضافة إلى أنني من القلائل الذين وجدوا سريرًا في غرفة عمليات ونجح الأطباء في إنقاذ عيني الأخرى بمعجزة إلهية بالطبع باتت حياتي أصعب بكثير لن اعتاد على رؤية نصف العالم فقط.
وأضاف عجلان، لم يوضح الأطباء في تقاريرهم سبب فقداني لعيني اليمنى ولكن بعضهم أكد لي أن الاحتمال الأكبر هو إصابتي بسبب قطع الزجاج المتناثرة والتي أصبحت وقت الانفجار مثل ملايين الرصاصات الصغيرة التي تخدش وتقطع في أجسادنا دون رحمة وخلفت مئات الآلاف من الإصابات في خلال عدة ثوانٍ بعد الانفجار.
وتابع عجلان، نعم كنت محظوظًا ولكن رغم هذا الحظ الجيد لم أنجح في إيجاد مستشفى إلا بعد 6 محاولات تقريبًا فالقطاع الصحي يحتاج لإنقاذ عاجل، وحاول صديقي إنقاذي فذهبنا إلى أقرب المستشفيات لنجده قد خرج عن الخدمة بالكامل وداخله عدد من حالات الوفاة بين الأطقم الطبية، فتحركنا إلى مستشفى أخرى وأنا في نزيف مستمر لنجد أن الأعداد بها هائلة ولا يوجد مكان داخل المستشفى ولا خارجها، فتابعنا التحرك حتى وجدنا مستشفى متخصصًا في جراحات العيون ساقه القدر لنا وكانت الإصابات قد طالت عيني اليمنى بشكل فادح والعين الأخرى أيضًا ولكن بشكل أقل خطورة.
الانفجار أطاح بي كـ"ذرة غبار".. وتدخلات ملائكية أنقذتني من العمى الكامل
في السياق نفسه، يقول "مكتف" 59 عامًا، ويعمل طبيبًا نفسيًا في تصريحات لوكالة "فرانس برس"، فقدت الرؤية الجانبية بالكامل أو ربما رؤيتي لنفسي. إذا نظرت إلى نفسي في المرآة، أشعر أنني خسرت ما كنته مع عينين".
بعد نحو أسبوعين على الانفجار، يجلس مكتّف في مكتبه على الأريكة المخصصة عادة لمرضاه، ويمسك منديلاً يمسح به ندباً عامودياً يقسم عينه اليمنى. يؤشر بيده إلى جرحه ويقول "هذا هو تأثير الانفجار".
وتابع، عند دوي الانفجار، كنت جالسًا في شرفة منزل صديقي المطل على المرفأ وألقاني الانفجار نحو الباب الأمامي كما لو أني "ذرة غبار"، وحتى الآن لا أدرك ما إذا كانت الإصابة في عينه ناتجة عن اصطدامه بالباب أو عن قطعة زجاج طائرة.
إلا أنه ينقل عن الأطباء أن ضغط الانفجار نفسه قد يكون أدى إلى تمزق عينه، وهو ما يجعل عملية ترميمها مهمة صعبة، في الساعات اللاحقة للانفجار، تطلب الأمر "سلسلة تدخلات ملائكية" حتى وصل مكتّف إلى سرير غرفة العمليات.
وأضاف الطبيب النفسي، شخص لا أعرفه نقلني كـ "المجنون" على دراجته النارية التي اخترقت الركام إلى مستشفى مجاور سرعان ما تبيّن أنه خرج من الخدمة جراء الانفجار، ومن حيث لا أدري، أقبلت راهبة نحوي بعدما أخرجت سيارتها وسط الدمار ونقلتني إلى مستشفى آخر تبيّن أنه بدوره خرج من الخدمة، ويصف المشهد في تلك اللحظات قائلاً "بدت المدينة بمثابة رؤية من الجحيم".
يقول، في النهاية تمكّن أحد أصدقائي من ترتيب موعد لجراحة خضعت لها في مستشفى في مدينة صيدا جنوباً، استغرقت العملية ساعتين من دون أن يتمكن الأطباء من إنقاذ عيني، ولا ينكر مكتّف أنه "أكثر حظاً من معظم" ضحايا الانفجار، لكن ذلك لا يبدّد مرارة الخسارة، في شعور يجده مماثلاً "لمراحل الحزن الخمسة"، في إشارة إلى خمس مراحل نفسية متعارف عليها في تعامل الأفراد مع الموت أو الحزن الكارثي. وتبدأ بالإنكار، ثم الغضب والمساومة، فالاكتئاب وصولاً إلى التقبّل.
"سما" فقدت عينها اليسرى وتحتاج لعملية ترميم بمبالغ لا تقدر عائلتها على تحملها
في السياق ذاته يؤكد مخول الحمد، 43 عامًا، عامل سوري، في حي مار مخايل في بيروت، حيث كان يظنّه المكان "الأكثر أمانًا في لبنان"، ولهذا السبب، وبعد سيطرة "تنظيم الدولة الإسلامية" على مدينته "منبج" في شمالي سوريا، انتقلت عائلته إلى لبنان للإقامة معه.
وكانت سما، طفلته الصغرى، تبلغ عامًا واحدًا فقط.
قبل أسابيع من الانفجار، احتفلت سما بعيد ميلادها السادس. وعند وقوع الفاجعة كانت قرب النافذة التي تطاير زجاجها إلى عينيها، على سطح شقتهم المطلة على مرفأ بيروت، الذي بات أشبه بساحة خردة كبيرة، تحتفظ سما بابتسامة خجولة بينما تغطي ضمادة عينها اليسرى.
وجرّاء الإصابة، تمزّقت شبكية عينها كاملة وَفْق ما أخبر الأطباء والدها. وتتطلب عملية الترميم تدخلاً جراحياً خارج لبنان، لا تقوى العائلة على تحمل كلفته.
ويقول "مخول" بينما يحضن ابنته التي ارتدت ثوبًا زهريًا ووضعت طلاء أظافر من اللون ذاته، بحزن "ليت ما أصاب الناس كلهم ألمّ بي ولم يحدث أذًى لسما".